ودٌع الموزع الموسيقي اليمني ضياء جعفر، الدنيا، كأنه شعر بدنو أجله عندما قدم آخر أعماله الفنية “سلام على الدنيا”، التي غناها للفنان أمين حاميم، أواخر العام 2018. وأمضى جعفر 4 عقود من عمره في خدمة الفن، موظفاً الآلات الموسيقية المتنوعة في الجمل اللحنية المختلفة، بطريقة إبداعية، رغم معاناته من ضعف شديد في النظر بعينه اليسرى. وتأثر الفنان ضياء جعفر مرشد، الذي ولد في العام 1967، بحي كريتر، شرق مدينة عدن جنوبي اليمن، بالفنانين الذين كانوا موجودين في الساحة الفنية في سبعينيات القرن المنصرم بعدن، أمثال محمد سعد عبدالله، ومحمد مرشد ناجي، وسعيد فندة.
وانضم جعفر إلى فرقة “الشرطة الفنية” التابعة لوزارة الداخلية في جمهورية اليمن الديمقراطية، كعازف للأورج، في وقت مبكر من عمره، حينها كان يحيي مع الفرقة العشرات من الاحتفالات الرسمية والحفلات الداعمة للتعليم في عدد من المدارس والكليات. وكان يتردد على معهد جميل غانم للفنون في مدينة عدن، بين الحين والآخر، للاستفادة من خبرات الفنانين والأكاديميين الروس والعراقيين في مجال العزف الموسيقي.
وفي منتصف الثمانينيات، استدعته إذاعة عدن للمشاركة في توزيع الأغاني التي كانت تبث ضمن برامجها المهمة في ذلك الوقت، بعدها كان يوزع العديد من المقطوعات الموسيقية لتلفزيون عدن، واستمر فترة زمنية معه حتى أسس وعمل مع أشهر الفرق الموسيقية في عدن، مثل “المعهد الموسيقي، والمسرح الوطني، والفرق الشبابية، وفرقة فندق عدن، وعمل في صنعاء مع فرقة الشروق، ثم فرقة سام اليمن”.
سيرة إبداع
وحفلت مسيرة المايسترو جعفر الفنية بالعديد من الإنجازات الموسيقية المتميزة، حيث قام بإعادة توزيع بعض أغاني الفنان الكبير أبو بكر سالم بلفقيه، وتوزيع العديد من الأغنيات لكل من الفنان أحمد فتحي، والفنان فيصل علوي، والفنان أمين حاميم، كما شارك في توزيع الأوبريت الغنائي الشهير “خيلت براقاً لمع”، بالإضافة إلى توزيعه لأغانٍ عديدة باللغة الإنجليزية لفنانين أجانب.
ويعد الفنان الموسيقي ضياء جعفر من العازفين المتمكنين النابهين الذين يخلقون لغة حوار موسيقية مشتركة تخدم الفنان المبدع الملحن والمطرب، كما يرى الفنان العدني عصام خليدي، في حديثه لـ”المشاهد”، بينما تصفه وكيلة وزارة الثقافة السابقة نجيبة حداد بـ”الفنان المؤمن برسالته”.
ويعتبر الفنان ناصر الشاذلي، الراحل ضياء جعفر بأنه “إعجاز فني في اليمن، كونه كان يعزف على عدة آلات موسيقية بشكل خرافي، رغم أن آلته الرئيسية هي الكيبورد”. ويقول الشاذلي لـ”المشاهد”: “كنا نسمي الراحل ضياء “إخطبوط الكيبورد”، وأحياناً “مجدي الحسيني اليمني”، لأنه كان يعزف أي عمل موسيقي بمجرد سماعه مرة واحدة”. ويضيف: “استطاع جعفر الأستاذ البارع، مواكبة التكنولوجيا التي أصبح للتوزيع الموسيقي بسببها أهمية بالغة، وكان قريباً من الفنانين الشباب الذين يفضلون الغناء على الإيقاعات السريعة”.
فنانون كُثر يقولون إنهم استفادوا فنياً من أعمال الفنان الراحل ضياء جعفر، الفنان أمين حاميم واحد منهم. ويقول حاميم لـ”المشاهد”: “كل موسيقي في اليمن استفاد من خبرة ونصائح جعفر، بل إن البعض كان يعتبره أباً له.
لم يكن الراحل يبخل على أحد بأية معلومة.
كان آخر عمل اشتغلناه مع بعض، هو آخر عمل نزلته “سلام على الدنيا”، وبصراحة موته شكل لي صدمة”.
وشارك جعفر في إحياء عدة فعاليات وحفلات موسيقية في عدن وعدد من المناطق اليمنية كصنعاء وتعز والحديدة والمكلا، وكان له مشاركات في حفلات فنية في دول عربية وأجنبية كروسيا وبريطانيا، وله مشاركات في التوزيع الموسيقي لعدد من مقدمات وتترات البرامج في قناة اليمن الفضائية وعدة إذاعات محلية.
النوتة الأخيرة
قبل وفاته بسنوات، كان ضياء جعفر يُحيي الأعراس والمناسبات الاجتماعية في مدينة عدن، إضافة إلى عمله كموزع موسيقي في مؤسسة “ناي” للإنتاج الفني.
ويقول الفنان مصطفى حسان، مدير مؤسسة “ناي” للإنتاج الفني، لـ”المشاهد”: “رافقنا الموسيقار الراحل لسنوات طويلة، لم يكن ذلك الفنان الذي يتعالى على تلاميذه، كان رحمه الله يحب التجديد، متفائلاً بأن واقع الفن والفنانين في عدن واليمن سيتغير للأفضل.
كان الفنان الراحل ضياء يتقبل أي نقد، وكان يتحمل أية كلمة جارحة للوضع المعيشي السيئ”. ويقول الفنان العدني نصر عيسى، الذي عايش الراحل جعفر في آخر أيامه، لـ”المشاهد”: “كان الراحل يقول لي إنه يريد أن يسافر إلى مكة المكرمة لتأدية العمرة، كنت حاسس به، وبما في داخله من أسرار، فالفنان ضياء كان كتوماً لا يخبر أحداً بما في داخله، إلا من يحبهم.
باختصار ضياء جعفر رجل عاش عمره في حب البيانو وفنه وحياته للموسيقى، وكان شغوفاً، ولا يحب أن يسمع شيئاً سيئاً. كان أستاذاً للكثير من العازفين، وتخرجت أجيال عديدة على يديه”.
ورغم الرصيد الفني الحافل الذي كان يمتلكه، إلا أن حالته المادية كانت قاسية، حيث لم يكن لديه راتب شهري من الحكومة، كما أنه لم يمتلك منزلاً يؤويه هو وزوجته وولداه (عائشة وجعفر)، وبعد انفصاله عن زوجته قرر جعفر العيش في أحد فنادق المدينة العتيقة في عدن، حتى فارق الحياة وحيداً في الـ31 من يناير 2019، حينها لم يعرف أحد أنه توفي وحيداً داخل غرفة الفندق، إلا بعد أن تم كسر باب الغرفة التي كان يرقد فيها.
وتقول الإعلامية رندة محمد: “يموت الإبداع في بلادي، ويتم رثاؤه ببعض الكلمات التي لا تفي حقه، يتذكرون فنونه وألحانه وإبداعه بعد موته فقط. كثير من الفنانين اليمنيين منسيون ومهملون، ولم يأخذوا حقهم.
مات الموسيقار العدني ضياء جعفر في غرفة، ولم يكن يملك شيئاً سوى ألحانه”. وفي رثاه يقول الكاتب علي مجاهد: “وداعاً ضياء جعفر، اكتملت النوتة التي أردتها، ولم يكتمل حلمكَ الجميل، ارتخى الوتَرُ المشدود أخيراً، وارتاحت أناملك، وتدلت الأغنية ذاهلةً فوق جدار الروح، قدمتَ عرضاً رائعاً وجميلاً، أحسنتَ في عملك، والله يحب المحسنين. مرحومٌ بإذن الله”.
نقلا عن المشاهد