فلسفة صغيرة
عندما كنت صغيرا في الثامنة أو التاسعة من عمري كنت كثير التأمل والتفكر فيما حولي أحب أن أخلو بنفسي اعمل فكري في كثير مما أرى و أسمع ، لم أكن كغيري من الأطفال الذين ينطلقون دون مبالاة في لعبهم وفي كثير من تصرفاتهم ، كل شيء كان عندي بحساب يسبقني إليه عقلي فيضع له الضوابط والشروط ، لقد كان عقلي قيدا يكبلني و يحول بيني وبين الطفولة في صخبها و مرحها و انطلاقها . كنت إلى الحزن و الانطواء أقرب مني إلى الفرح والسرور والانفتاح ، لقد كان ضحكي محسوبا لا انطلق فيه خوفا من البكاء الذي سيعقبه و فرحي كذلك محسوب خشية الحزن الذي سيأتي - لا محالة - بعده ، بل إن خوفي من هذا الحزن يفسد علي فرحي الذي أعيشه .
تلك الأغلال التي كانت تكبلني لم أكن أراها على أصدقائي من الأطفال الذين ألعب معهم .
و ذات يوم كنت ألعب مع أصدقائي و جيراني من الأطفال وكنت أسمعهم ينادي بعضهم بعضا بأسمائهم : يا عبدالله ، يا محمد ، يا نجيب ، و لكنهم حين ينادونني لا يذكرون اسمي ، فلا يقولون : يا جميل و إنما ينادونني بقولهم : يا بن سلطان ، و قد حز ذلك في نفسي فداخلني شعور غريب و كأنني لست مثلهم أو واحدا منهم ، فانفردت بنفسي أفكر في هذا الأمر تدور الأسئلة في عقلي ، و تثور المشاعر في قلبي يؤلمني ذلك التجاهل لاسمي و عدم ذكره . لقد أخذت الأسئلة تتوالى : هل كانوا يتجاهلونني ، وهل أنا مختلف عنهم ، أم أن اسمي ليس كأسمائهم ، ويمكن الاستغناء عنه؟ ثم عدت إلى نفسي ألقي عليها الأسئلة بطريقة أخرى . أين هو اسمي الذي أبحث عنه ، وما علاقتي به ، و أين موقعه مني ؟ وهل اسمي هو أنا أم أنه شيء آخر ؟
لكنني - برغم عدم ذكرهم اسمي - موجود بينهم و ألعب معهم ، و هذا يعني أنني لا احتاج إلى هذا الاسم ، وكذلك هم حين يسكتون ولا ينطقون بأسمائهم يكونون موجودين . إذن كل الناس يستطيعون الاستغناء عن أسمائهم .
و ماذا سيحدث لو أن الناس جميعا عاشوا من غير أسماء هل في ذلك مشكلة ؟!
لكن لماذا يحرص الناس على تسمية الأطفال حين يولدون ، و لماذا يتخيرون لهم الأسماء ، و إذا أصيب الطفل بمرض أو كان كثير البكاء قالوا هذا بسبب الاسم و أنه ثقيل عليه ، فيذهبون إلى فقيه القرية لكي يختار اسما مناسبا عن طريق حساب محدد يتبعه حتى لا يكون الطفل عرضة للأمراض المتواصلة أو البكاء المستمر ، إذن هذا يعني أن الأسماء لها تأثير على أصحابها ، و بناء عليه هل يكون اسمي هو السبب فيما أعاني ؟
إلى غير ذلك من الأسئلة التي كانت تصيبني بالحيرة والقلق .
غير أن تلك الأسئلة و تلك المعاناة التي نتجت عنها قد أحسنت إلي - فيما بعد - فقد وضعتني في مواجهة حاسمة مع ذاتي وزرعت في نفسي مشكلة البحث عن الذات و الوعي بحقيقتها ، و أصبحت رحلة البحث عن الذات رحلة طويلة أوقفتني على حقيقتي الخاصة و حقيقة الإنسان بصفة عامة . و أصبحت كلمة ( إنسان ) بالنسبة لي مشكلة فكرية مؤرقة ، و لقد خلصت من ذلك إلى أن كل مشكلات العالم تبدأ بالإنسان و تنتهي به ، فالإنسان هو المشكلة و هو الحل .
إضافة تعليق