من ضمن المشكلات التي نعاني منها والمؤثرة في حياتنا مشكلة التاريخ ، و لا أعني بالتاريخ هنا تدوين الوقائع و الحوادث و تحليلها و تفسيرها ، و إنما أعني بذلك التصور الذي نحمله للتاريخ في عقولنا ، إن تصورنا للتاريخ تصور سلبي ينظر إلى حركة التاريخ بوصفها حركة تنازلية تسير من الأعلى إلى الأدنى ، و نتيجة لهذا التصور فإن الأمة يسير بها قطار الحياة من الخير إلى الشر و من القوة إلى الضعف و من العز إلى الذل و من الأمن إلى الخوف و من الغنى إلى الفقر و من الوحدة إلى التمزق والشتات ، وبناء على ذلك أصبحت نظرتنا إلى الماضي على أنه هو الأفضل و الحاضر هو السيء ، و المستقبل هو الأسوأ ، ولقد انعكس هذا التصور على سلوكنا ومعاملاتنا ؛ لأن سلوك الإنسان فرعٌ عن تصوره أو هو نتيجة حتمية له ، لذا أصبحنا بوعي و بلا وعي نسلم بما يكون في حياتنا من أحداث سيئة أو مشكلات مأساوية فنذعن لها ، ولا نسارع إلى مواجهتها و البحث عن حلول ناجعة لها ، لأنها في تصورنا أمر لازم وقوعه ولا مفر منه ولا حل له سوى التسليم و الاستسلام . و لقد غذى هذا التصور و مكَّنه في النفوس ما شاع بين الناس من فهم غير صحيح للأحاديث النبوية التي تحدثت عن الفتن و المصائب التي ستواجه الأمة في مستقبل أيامها ، فقد فهمت هذه الأحاديث - عندبعض الناس - على أنها تخبر عن هذه الفتن اخبارا مجردا ، و هو ما يجعل الناس منتظرين حدوثها مستسلمين لها خائفين وجلين منها ، و ربما استولى عليهم الخوف و الهلع من المستقبل و حوادثه فثبط عزائمهم و أوهن قواهم ليتمكن اليأس من نفوسهم فلا ينتظرون في المستقبل خيرا أبدا ، في حين أن النظرة السليمة إلى هذه الأحاديث تجد أنها تنذر الناس و تحذرهم من هذه الفتن لكي يستعدوا لها ، ويعدو لها العدة ويتهيأوا لمواجهتها حتى لا يقعوا في شَرَكها فتهلكهم . و عندما ننظر إلى الأمم التي تتربع على قمة المجد الحضاري في هذا العصر نجد أنها تنظر إلى التاريخ نظرة تطورية نامية فهو يسير من الأدنى إلى الأعلى ، لذلك كان حاضرهم أفضل من ماضيهم و مستقبلهم أفضل من حاضرهم ، لأن تصورهم للتاريخ تصور ايجابي يبعث الهمم و يزرع الأمل فهم في علم و عمل دؤوب واجتهاد مستمر ، يعيشون حياتهم بوعي و إدراك . يستمتعون بحاضرهم و يستشرفون مستقبلهم بمنظار العلم و المعرفة فيأتيهم حاملا معه ثمار اجتهادهم يانعة دانية القطوف .