كان الوقت ظهرا و أشعة الشمس شديدة لافحة ، و أنا أسير عجلا لأقضي أمرا مهما من أموري ، و فجأة اعترض طريقي فتوقفت أنظر ما يفعل . لم يلتفت إلي بل انحنى إلى الأرض فطرح عليها كيسا كبيرا كان يحمله على ظهره ، ثم بسط على جانب الشارع قطعة كرتونية ، ثم أخرج من الكيس أعدادا قديمة من مجلة العربي الكويتية و رصها على القطعة الكرتونية ثم جلس إلى جوارها منكسرا تحت أشعة الشمس الحارقة ، و في نفسه شعور بأن بضاعته ليست مما يتهافت عليه الناس . كان رجلا نحيلا يبدو من ملامحه أنه بلغ الأربعين من عمره أو يزيد ، و كانت هيئته و ملابسه تعكسان صورة الإنسان اليمني الذي ألقته الحرب إلى الفقر و العوز ، و أرهقته مطالب الحياة . كنت أنظر إليه و في قلبي شعور الحزن و الأسى للحال التي كان عليها يغمرني الأسف لعجزي عن مساعدته ، فقد كبلت هذه الحرب الكارثية أيدينا و جعلت لكل واحد شغلا في نفسه ، و ثمة شعور آخر بالبهجة والفرح لرؤية هذه المجلة الحبيبة إلي ، غير أن انشغالي بالأمر الذي خرجت لأجله دفعني للانصراف عنهما و متابعة سيري ، لكنني و بعد مسافة ليست بالقصيرة أحسست في نفسي شوقا شديدا يجذبني إلى الخلف ، و ذكريات كثيرة تتزاحم في رأسي تهتف بي قائلة : ارجع إليها إنها حبيبتك الأثيرة و رفيقة دربك كيف تتركها على قارعة الطريق ولا تهتم لأمرها ، فوجدتني راجعا على أثري أحث الخطى و وقفت أتأملها و أجيل النظر في أغلفتها الجميلة المتنوعة ، ثم انتقيت منها ثلاثا اشتريتها رغبة فيها ، و فتحا للأمل في نفس صاحبها . ثم وضعتها بسعادة في حقيبتي و عندما عدت إلى البيت و ضعتها على مكتبي و أخذت أقلب صفحاتها و أتذكر رحلتي الطويلة معها شغفا وحبا . بدأت علاقتي بمجلة العربي منذ أن كنت في الصف الأول من المرحلة الإعدادية عندما رأيتها لأول مرة في إحدى المكتبات فجذبني إليها شكلها الأنيق ففتحتها و قلبت أوراقها و أدهشني ما فيها فاشتريتها، و بدأت قصتي معها و امتدت سنين طويلة لا يفوتني عدد من أعدادها أقضي في قراءتها أجمل الأوقات ، أقرأ كل ما يكتب فيها من الكتابات العلمية و الأدبية و القصص و الأشعار و الاستطلاعات المصورة و الحوارات و لا أترك شيئا من الغلاف إلى الغلاف ثم أعيد قراءتها و لا أمل منها ، أحببتها و شغفت بها و صرت أراقب صدورها في كل شهر مراقبة المشوق المستهام . أذهب من القرية إلى المدينة آخر كل شهر ميلادي في رحلة خاصة لشرائها و عندما أحصل عليها أشعر كأنني ظفرت بكنز من الكنوز . لقد كانت تفتح لي نوافذ عديدة أطلع من خلالها على العالم و على العلوم والمعارف ، إنها مجلة رصينة متميزة ذات نكهة خاصة متنوعة كتنوع الحدائق بالأزهار ، و تقدم للقارئ زادا ثقافيا منوعا لا تجده في سواها ، ثم فتحت لي باب الاهتمام بالمجلات الأخرى فضممت إليها كل ما أجده منها مثل : مجلة الأقلام و آفاق عربية العراقيتين و مجلة اليمن الجديد و مجلة الأزهر المصرية ...، ثم زدت إلى ذلك الجرائد اليمنية و العربية التي كانت تصل إلى المدينة ، و أخذني عالم القراءة إليه فشغفت بالقراءة كثيرا ، و انتقلت إلى عالم الكتب فكنت أقرأ كلما يتاح لي قراءته منها و كان أكثرها كتبا دينية ، و أشتري كل ما أستطيع شراءه منها و كانت سلسلة عالم المعرفة في طليعتها ، و أصبحت أتابع في آخر كل شهر مجلة العربي و كتاب عالم المعرفة .ثم دخلت من عالم القراءة إلى عالم الكتابة فكان الشعر وكانت المقالة والقصة ، و لكنني كنت أمزق كل ذلك لأنني لم أكن راضيا عما أكتبه .
إضافة تعليق