الخريف الإسلامي ..!!
بقلم /نشوان الخراساني
رغم أننا نتحدّث عن أن العالم أصبح قرية كونية منذ عشرون عام على الأقل، إلا أن الوهم حول المسافات في القرن الحادي والعشرين لا يزال يحكم صناعة القرار السياسي بقوّة، وخصوصاً في العالم العربي. لا نتحدّث هنا عن المسافات الجغرافية فحسب، بل المسافة الاقتصادية والسياسيّة المعقّدة التي تفصل عادة بين الاستقرار والخراب لبلد ما وبين المستقبل المشرق والعصور المظلمة؛ ولعلّ الانتفاضات العربية في العام 2011 وما تلاها هي خير معبّر عن سوء تقدير الأنظمة العربية لمسافات عديدة منها المسافة التي تفصلها عن شعوبها وتلك التي تفصلها عن نهاية صلاحيتها.
والان هل نقول ان الأنظمة العربية بنت أوهامها بنفسها؟
استمرّت لعقود تنظر في مرآة صنعتها هي، مؤلّفة من الوسائل الإعلامية وأجهزة المخابرات والنوّاب المعيّنين تعييناً، والتي ردّدت جميعها نفس الرسالة حتى بات النظام يصدّق كذبته، ورسالتها كانت: الأمور بخير، النظام مستقر، والأعمال يمكنها أن تستمرّ كالمعتاد إلى ما لا نهاية. تكاتفت الأنظمة بكتم صوت أي اعتراضات تنشأ هنا وهناك، أو قلّلت من تقديرها، وعادت بعد كلّ حادثة تكرّر لنفسها “الأمور بخير”، فيما كان كل شيء يغلي تحت السطح.
قضية وجود حضارتنا نفسها والسقوط البطيء الذي يجري لها على قدم وساق، ويفسّر جذر معظم الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح العالم اليوم، فيما سقوط الرئيس هو حدث واحد وجزئي في سلسلة أحداث كثيرة حصلت قبله وبعده. لكن رغم ذلك، طغى الحدث على المشهد وضاعت الصلة بينه وبين ما يحصل لحضارتنا بالنسبة لمعظم الحاضرين.
قد يقول البعض أن التسلسل المنطقي في هذه الحالة كان أن يستنير المتواجدون بأطروحة الكتاب لكي يعودوا إلى جذور الأزمة ويحلّلوها انطلاقاً من ترابطها بالواقع العالمي المتأزّم، لكنّي شخصياً لم اتوقّع حدوث ذلك، وما حصل هو أن الجميع كان منهمكاً بحدث السقوط نفسه، متناسياً كل السياق الذي ظهر فيه الربيع العربي.
إن مظاهر الغرق في الأحداث الآنية هو التمجيد الدرامي للثورات والتعامل مع القوى الإسلامية كأنها مفاجأة لم يعلم أحد بوجودها قبلاً.
كل ثورة هي طبعاً عمل شجاع، وهي نتيجة عمليّة طويلة من التراكم، كما أنها تؤدّي إلى تغيّرات دراماتيكية في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلد ما. لكن ما نتجنّب ذكره عادة عند الحديث عنها هو أن الثورات هي في معظم الأحيان نتيجة فشل طويل الأمد في إحداث تغيير. هذا الفشل هو ما يؤدّي إلى انفجار على شكل ثورة، والانفجار هو أمر لا يمكن التحكّم به أو التنبؤ بنتائجه. لذلك ما يحصل عادة هو أنه ما يهدأ الغبار حتى تكون الأمور قد استقرّت في يد قوى الأمر الواقع، سواء أكانت الجيش، القوى الإسلامية، أم فلول النظام السابق. الثورة التي تحصل قبل نضوج الظروف الاجتماعيّة والسياسية لها قد تؤدّي في بعض الأحيان إلى عكس التغيير المرجوّ منها، وقد تقطع الطريق حتى على مسيرة بطيئة من التغيير الملموس وتستبدلها بفترة مطوّلة من الفوضى تطيح بالانجازات السابقة. هذا لا يعني أن أنظمة الطغيان والفساد تستحقّ الاستمرار، بل يعني أن الثورة ليست أمراً جيداً أو سيئاً لمجرّد كونها “ثورة”، يمكنها أن تكون الاثنين معاً.
لم يحصل بعد أن كانت القوى السياسيّة تعمل لسنوات على بديل للنظام، لم يحصل بعدما أصبحت مفاهيم مثل المشاركة السياسية المفتوحة وحقوق الناس والعدالة الاجتماعية قيم سائدة في المجتمع وبوصلة القوى الحيّة فيه، لم يحصل بعدما تخطّينا أيدولوجية الاستبداد الديني وعمائم التحريم، ولم يحصل بعدما تم تفريغ الأنظمة الاستبدادية من عناصر قوّتها. صحيح أنه كان هنالك تمرّد على الأنظمة هنا وهناك، لكن مطلب التغيير السياسي والاجتماعي الشامل لم يكن مطروحاً. الطغيان المتزايد لأنظمتنا دفعنا كشعوب إلى الثورة قبل الأوان بعد انسداد الأفق السياسي للتغيير، لكننا لم نكن مستعدّين للتعامل مع ما سيأتي بعد ذلك. دخلنا الثورات وأعيننا على صورة الدكتاتور، فغاب عن نظرنا كل الطغاة الصغار اللذين يقفون خلف الصورة.
إضافة تعليق