لواضح أن أزمة سد النهضة الإثيوبي التي تراوح مكانها منذ مطلع أبريل الماضي بعد فشل المفاوضات بين أطراف الأزمة في كينشاسا، (مصر والسودان من جهة وإثيوبيا من جهة أخرى) دفعت مصر الى تعزيز نفوذها الدبلوماسي والعسكري في إفريقيا وسط تصاعد الخلاف مع إثيوبيا حول بناء السد على أحد روافد نهر النيل.
كما دفعت مصر الى البحث عن تحالفات جديدة في القارة الإفريقية في ظل إصرار إثيوبيا على مواصلة ملء السد، وتأكيد مضيها قدما في هذا الاتجاه رغم التحذيرات المصرية والسودانية.
وفي هذا السياق،وقعت مصر سلسلة من الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية مع أوغندا وكينيا وبوروندي ورواندا وجيبوتي في الأشهر الأخيرة.فيما أبرمت مصر اتفاقيات تكامل كبيرة مع السودان، حيث أجرى البلدان مؤخراً مناورات عسكرية مشتركة شاركت فيها طائرات حربية وقوات خاصة.
كما ربطت مصر شبكتها الكهربائية الخاصة بها بشبكة السودان، وثمة خطط جارية لربط شبكات السكك الحديدية أيضاً، ونوايا لتشغيل خدمة قطار من الإسكندرية إلى كيب تاون في جنوب أفريقيا.
ويبدو الى حد بعيد أن السبب الرئيسي وراء هذا التغيير في السياسة الخارجية المصرية، هو السد المثير للجدل الذي تبنيه إثيوبيا على نهر النيل الأزرق، والمعروف باسم سد النهضة الإثيوبي الكبير.
وتنزانيا أيضا، حيث تستثمر مصر بكثافة في سد جوليوس نيريري الهائل لتوليد الطاقة الكهرومائية على نهر روفيجي.
كما وقعت مصر اتفاقيات لمشاريع جديدة مع جنوب السودان وجيبوتي والكونغو وغيرها، بعد إعلان بناء سد جديد على نهر النيل.
وزار رئيس الأركان المصري، الفريق محمد فريد حجازي، على رأس وفد عسكري رفيع المستوى السودان والكونغو، وكان ملف سد النهضة الإثيوبي حاضرا بقوة في تلك الزيارات.
وفي هذا الاتجاه يبدو أن القاهرة تريد تسليط الضوء على المشروع كمثال على استعدادها للمساعدة في التنمية في دول حوض النيل.
وهذا بالتحديد هو نوع الرسالة التي تحاول مصر التي ليست لديها مصادر مياه رئيسية أخرى للشرب والزراعة غير نهر النيل، نقلها إلى الرأي العام العالمي.
وتأمل مصر من وراء تكوين دائرة حلفاء حول إثيوبيا الحصول على مزايا بشكل أو آخر فيما لو أصبحت المواجهة مع إثيوبيا أمراً لا مفر منه.
وأحالت كل من مصر والسودان، الخلاف حول السد إلى مجلس الأمن الدولي، إذ يعتبران أنه يمكن أن يهدد السلام والاستقرار في المنطقة.
وكانت القضية معروضة على مجلس الأمن من قبل وأحيل إلى الاتحاد الأفريقي الذي فشل في حلها.في حين تلقي كل من القاهرة والخرطوم باللوم على إثيوبيا في ذلك، بينما تتهم أديس إثيوبيا، مصر، باستخدام المفاوضات كخدعة لإعادة تأكيد احتكارها الفعلي لمياه النيل، في إشارة إلى حصة الأسد من المياه التي تريدها مصر.
ومن الواضح أن التدريبات العسكرية المشتركة التي جرت مؤخراً في السودان كانت تهدف إلى إرسال تحذير ليس فقط لإثيوبيا ولكن إلى العالم أجمع بأن البلدين لن يترددا في استخدام قواتهما العسكرية إذا لزم الأمر في مسألة حياة أو موت للبلدين مثل مسألة المياه.
وتعزز اتفاقيات التعاون العسكري بين مصر وأوغندا وكينيا وبوروندي هذه الرسالة، على الرغم من أنه من الصعب تخيل موافقة هذه الدول على الانجرار إلى حرب إقليمية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ولا تخدم مصالحهم الوطنية.
وبدأت إثيوبيا في بناء “سد النهضة” على النيل الأزرق عام 2011 بهدف توليد الكهرباء، وتخشى مصر من تأثير السد على حصتها البالغة 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل؛ فيما يخشى السودان من تأثير السد على السدود السودانية على النيل الأزرق.
وهناك خلاف حاد بين دول المصب مصر والسودان، وبين إثيوبيا، لم ينته بعد حول قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، التي فشلت كل جولات المفاوضات بين الأطراف الثلاثة في التوصل لاتفاق حولها.
كما فشل الاتحاد الأفريقي على مدى ثلاث دورات، برئاسة كل من مصر وجنوب أفريقيا والكونغو على التوالي، في دفع الدول الثلاث لإبرام اتفاق.
وفشلت جميع جولات المفاوضات، التي بدأت منذ نحو 10 سنوات، في التوصل إلى اتفاق ملزم بخصوص ملء وتشغيل السد. وكانت أبرز هذه الجولات، تلك التي عقدت برعاية أمريكية، دون توقيع اتفاق بينهم، حيث رفضت إثيوبيا توقيع الاتفاق الذي توصلت إليه المفاوضات.
وأكدت إثيوبيا في أكثر من مناسبة عزمها إتمام الملء الثاني لسد النهضة في موسم الأمطار، مع بداية شهر يوليو المقبل، بغض النظر عن إبرام اتفاق مع دولتي المصب. وتعتبر مصر والسودان إقدام إثيوبيا على الملء الثاني لسد النهضة دون التوصل لاتفاق، تهديدا للأمن القومي للبلدين.
واقترحت مصر والسودان سابقا وساطة رباعية تشارك فيها الولايات المتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي، فيما تمسكت أديس أبابا بالمسار الذي يشرف عليه الاتحاد الأفريقي.
ويرى الكثير من المراقبين أنه إذا ما فشلت كل المحاولات الدبلوماسية، فليس من المستبعد أن ألا يدعم الرأي العام في مصر، العمل العسكري إذا لزم الأمر.
أما في السودان على عكس مصر، فهناك ثمة درجة معينة التناقض لأسباب ليس أقلها أن السودان سيستفيد من السد، الذي سيقلل من الفيضانات المدمرة ويزوده بطاقة كهربائية رخيصة الثمن.
وهناك إجماع واسع بين المراقبين، هو أنه رغم المهارات والإمكانيات العسكرية والإرادة السياسية لدى كل من السودان ومصر، إلا أن أي ضربة تستهدف السد لإعاقة مشروع بنائه لبضع سنوات لن تحل المشكلة… وبدلاً من ذلك، سيزيد من حالة عدم الثقة ويعيد الحياة إلى سردية المظالم القديمة، والمشاعر القومية وروح الانتقام.