ضجر(قصة قصيرة)

طال أمد الحرب كثيرا واشتد أورها، لم تعد الناس تلتمس أملا في انطفائها، كثر الهرج والمرج، اضمحلت الأخلاق، تفشت البطالة،و زادت حدة الإملاق، بسط الضجر والملل رداءهما الكئيب على كل البلد، لم يتبق شبر في الأرض المتعبة إلا وتدثر برداء السأم ...
خرج مبروك من السجن بعد خمس سنين قضاها في غياهبه، لم يعد ذلك الإنسان صاحب السوابق الذي يخشاه الجميع!!
 عاد شخصا مختلفا تماما، كأنه قادم من المدينة الفاضلة، فاجأ الجميع باستقامته، شكك الكثيرون بتوبته، الدرماتيكية، ظنوها نوعا من الخداع الاستراتيجي؛ لتحقيق مبتغاه؛ ليأمنهم، ويستميل جانبهم، ليندس وسطهم، ومن ثم يلسعهم بسوط فجوره.
مع هذا لم يكترث مبروك لقدحهم في توبته، وجعلهم يسدرون في غيهم، واستمر في صلاحه، وتنقية نفسه من بقايا شوائب الماضي المترسبة في أعماقه.
 في المقابل بينما كان مبروك يثبت للجميع وبالدليل القاطع عبر مواقف عدة، تجلت فيه شهامته و رجولته، كحادثة ملاحقة عصابة من شخصين تستقل دراجة نارية اختطفت حقيبة إحدى السيدات، وتمكنه من إلقاء القبض عليهم، كان في الجانب المقابل تحصل حوادث شنيعة في المجتمع، كقتل أب لابنه، وخالة تعذب طفلة يتيمة، وابن عاق يضرب والداه.... لم يكتف مبروك بالتفرج بل كان يتدخل، ويحاول وضع حد للقضايا سواء عبر النصح، والتقويم، أو عبر الجهات المختصة.. مع الأيام لاحظ مبروك أن الحوادث الشنيعة نفسها تتكرر وبأساليب مختلفة، حتى صارت ظاهرة معيبة للمجتمع، وتعرضه للضحك والسخرية في مواقع التواصل من قبل الأشقاء، آلى على نفسه ألا يترك وطنه وشعبه عرضة لهذا النوع الدخيل من جرائم وصمة العار، وجعله ينزلق نحو المجهول، وتركه لقمة سائغة للفضائيات المتربصة؛ أخذ يقرأ بكتب علم النفس والاجتماع، ويحلل ويدرس، ويجري مقابلات مع الناس.
رغى كثيرا في الحافلات، ومجالس المقيل، والمقاهي الشعبية، والأسواق، ومنتديات التواصل الاجتماعي، حتى لاح أخيرا الفرج في أفق سمائه المكفهرة، وصاح  بفرح أرشميدسي غامر (وجدتها وجدتها)، وصار يتقفز كنسناس مرددا الضجر ، الضجر!!
سأله صديقه باستغراب: الضجر؟!
مبروك: نعم الضجر!  هو من فعلها، هو من يعطي الإشارات السلبية للناس باقتراف تلك الأفعال الدنيئة، والجرائم الشنيعة.
لوح صديقه بيديه باستغراب، ومضى لشأنه.
لم يستعجل مبروك في إعلان نظريته مبكرا، بل راح يتوسع بدراستها بشكل أعمق.
ذات يوم وبينما مبروك في خضم أبحاثه،وقبل أن تنضج نظريته تماما، فوجيء بخبر صادم، زميل مقاعد الدراسة الذي عرفه شابا مهذبا وخجولا، يقدم على قتل أسرته وينتحر، جز على أسنانه بحنق وضرب الجدار بقوة، صارخا بغضب:إنه هو من فعلها؛ الضجر !
الضجر عندما يستفحل ويصل لذروة عنفوانه ينتقل من مرحلة الملل الوردية لمرحلة السأم البرتقالية، ومن ثم ينفجر بمرحلة الضنك الحمراء الخطرة التي تتماهى بين الاكتئاب والغضب، وتخنق فكر الإنسان، وتحجب عنه الإدراك والشعور، ويصاب بمرحلة  هوس الضجر؛ حيث يصبح كل شيء أمامه مثقل بالرتابة والضيق، ولا يستطيع كبح لجام سورة الضجر الذي يرسل غشاوة وحزمة من الأوامر الشاذة للدماغ، لارتكاب جرائم شنيعة، يصورها العقل الخاضع للملل، وسيلة للانعتاق من سحب الكآبة، 
هكذ في صبيحة اليوم التالي راح مبروك يشرح نظريته دون أي تجاوب من المجتمع، الذي عزا جنونه للأيام الثقيلة التي قضاها تحت وطأة السجن.
"عواد أبو البرد" أستاذ فلسفة متقاعد هو من تنبه لأهمية ما يقوله مبروك. 
أبوالبرد: أشاطرك الرأي يا مبروك، الضجر الناتج عن تغيير نمط عيش الناس من توقف الأعمال، والحصار والحرب، وتردي الأوضاع، والوصول لقمة اليأس من عدم عودة ترف الحياة كما كان، قاد الناس لجنون، ويأس، وانهيار نفسي حاد، مخبأة تحت سياج متداع من الشخصية الهشة، مايلبث أن يتهشم تحت أضعف أزمة، تعصف بكيان الفرد منا.
مبروك بفرح شديد: بالضبط!
أبو البرد: الضجر كان في الماضي يجد شوارع للتسكع، حدائق للتنفس، مقاهي للثرثرة، أعمال لتفريغ الطاقة الفائضة، كان يتلاشي، يتبخر ويتبعثر في هذا الحيز، ويخرج بشره من أعماق النفس البشرية المعتمة، عندما أغلق كل شيء، وحوصر راح يخرج من أشد المناطق ظلمة في أعماق النفس المحطمة بفعل الواقع المريع، شرا مستطيرا.
هتف مبروك جذلانا : رائع، أنت عبقري يا أبو البرد! تقرأ أفكاري.
تلاحقت الأيام، وازدادت قتامة، ولم يجد مبروك وأبو البرد مصغ لهما..
وفي صبيحة يوم صيفي خانق وكئيب، صفع أبو البرد خبرا بأحد جروبات الواتساب عن العثور على مبروك منتحرا بشقته!!!
فراح عواد أبو البرد منهارا يصرخ بشكل هستيري: الضجر إنه الضجر!! أوقفوه قبل أن يلتهمنا جميعا.

رستم عبدالله

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص