العمارة الجزائرية تشهد صراع الحضارات العثمانية والفرنسية

على عكس بقية الدول، لا يظهر على معمار الجزائر أية علامات تشير إلى هوية البلاد، بل تختلط الأمور على الزائر بعد أن أصبح المشهد العام يغلب عليه لون الطوب "الأرجواني" بسبب المباني غير المكتملة، فيما تبقى هندسة المنجزة منها من دون أدنى لمسات هوياتية تحدد ارتباط وأصالة الأمة، على رغم اختلاف الثقافة والتقاليد من منطقة لأخرى.

شروط الإنجاز المعماري

وجاء المرسوم الذي يقنن دفاتر شروط الإنجاز المعماري في الجزائر، ليكشف حقيقة فوضى البناء التي تعيشها مدن وقرى وأحياء البلاد، وهو الذي يهدف إلى تحديد الإطار المرجعي للمبنى المدمج مع محيطه الثقافي ومنظره الطبيعي، كما يضمن إنتاجاً معمارياً وعمرانياً منسجماً مع الهوية المعمارية والطبيعية لأي منطقة.

وفي حين كان الطابع الأوروبي يغلب على العمران بحكم فترة الاحتلال الطويلة للمستعمر الفرنسي من 1830 إلى 1962، وبشكل أقل النمط العثماني الذي عملت السلطات الفرنسية على محوه بعد أن كان السائد، أدى هذا التنوع العمراني إلى تجاهل وضع سياسة هندسية واضحة بعد استقلال البلاد عام 1962، وفسح المجال أمام فوضى لا تزال تشوّه المنظر العام في ظل غياب نمط موحد ذا هوية.

الأستاذ في مدرسة الهندسة المعمارية يوسف كانون، يذكر أن لعمارة الجزائر أربع مراحل، الأولى تخص العهد العثماني وتراعي الخصوصية الإسلامية للشعب الجزائري، والثانية تشمل 100 سنة من فترة الاحتلال الفرنسي بين 1830 و1930، التي تعكس الثقافة الأوروبية المعروفة بانتشار المقاهي والساحات العمومية، وتقع الفترة الثالثة بين عام 1930 و1962 فترة استقلال البلاد، وهي مرحلة الحداثة ونشأة الهندسة الحديثة في أوروبا، حيث ظهرت أهم النظريات الهندسية الحديثة عبر تجارب مختلفة قام بها المهندس الفرنسي كوربزيى، الذي أعد مشاريع معمارية للجزائر، فيما تأتي الرابعة منذ الاستقلال حتى اليوم.
البحث عن هوية هندسية معمارية

المرسوم الذي يعدّ الأول من نوعه في الجزائر، يقول كمال بنزيدون، إنه يندرج في إطار البحث عن هوية هندسية معمارية ذات ملامح مشتركة للمدينة، الأمر الذي حرّك الحكومة من أجل وضع سياسة تسهم في إعادة الهوية للمشهد العمراني، مضيفاً أن فوضى العمران بلغت حدوداً مقلقة، إذ "نجد مباني هي في الحقيقة هياكل مربعة تنجز بجانب مؤسسات حكومية وهيئات بهندسة معلومة، ما يفرز مشهداً ليس محبباً"، وأوضح أنه من الضروري توظيف العراقة العمرانية لمختلف المدن الجزائرية.

ويتابع بنزيدون أنه لا بد من تحرك مؤسسات الدولة لإنعاش وحماية الموروث الحضاري المميز، ووصف المشهد العمراني الحاصل في بلاده بأنه صراع حضارات بين العثمانيين والفرنسيين والجزائريين الذين لم يجدوا طريقاً للكشف عن هويتهم بسبب غياب التخطيط الحكومي الذي منح الأولوية للقضاء على مشكلة السكن بعيداً من فرض نمط عمراني جزائري، داعياً إلى استدراك التأخر من خلال المرسوم الصادر أخيراً الذي من شأنه إعادة الاعتبار للهوية الجزائرية في الهندسة العمرانية.

الحماية من كل محاولات "السرقة"؟

من جانبه، أوضح رئيس المجلس الجزائري لهيئة المهندسين المعماريين حسان مالكية، أن "المرسوم يأتي في إطار العمل على الحفاظ على الهوية الوطنية التي يشكل التراث المعماري أحد أسسها، وذلك من خلال حماية مكوناته والتعريف به وتدوينه في دفاتر تعليمات معمارية"، مضيفاً أن "المرسوم يعالج إشكالية الهوية المعمارية للبنايات في الجزائر ويدفع للحفاظ عليها وتطبيقها بحسب الخصوصيات المعمارية والعمرانية لكل منطقة".

وتابع مالكية أن الخطوة تشجع على الإبداع في المجال المعماري وجعله منسجماً مع الهوية المعمارية الجزائرية، وتسهم في العمل على حمايتها من كل محاولات "السرقة"، وهو "ما سيمنح للمنظر العام لمدننا جمالية وفق نمط عمراني يعكس هويتنا بتنوّع ثقافتها وتراثها".
صمود ثم تصدع

وبعد أن صمدت خصوصيات العمران الجزائري، بيتاً كان أم مسجداً أم مؤسسة، خلال العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال، بدأت تتصدع بسبب عوامل منها النزوح الريفي الذي فرضته سنوات العنف والإرهاب في التسعينيات، بحيث استقبلت المدن مناطق كاملة فرت من الأوضاع الأمنية المتردية، من غير استعداد مسبق لذلك، فبدأ يظهر منطق البناء العشوائي، ليس على هامش المدن فقط بل في قلبها أيضاً.

وباتت مظاهر التشوهات المعمارية تتجلى في عدم انسجام البناء الجديد مع الروح السائدة في المكان من حيث الأشكال والألوان، وطغيان روح الإسمنت والطوب على حساب الجماليات، وتعويض حدائق وفناء البيوت بالمستودعات انسجاماً مع التوجه التجاري، وزاد عدم الاعتماد على مهندسين وبنائين ذوي علم وخبرة من فوضوية البنايات، لا سيما في ظل ارتفاع أسعار مواد البناء وأجرة البنائين، حيث أصبح الجزائري هو المهندس الذي يضع مخطط التشييد الداخلي و"يخترع" التصميم الهندسي الخارجي.

بناء ثقافة عمرانية

وفي السياق، يعتبر المهندس المعماري رابح الشريف أن اللجوء إلى مكاتب دراسات وتشييد ليس من ثقافة الجزائري ماعدا فئة قليلة من أصحاب الأموال، لذا "نجد أنماطاً عدة من التشييد والهندسة، ما منح المشهد العام فوضوية وبات من الصعب تحديد هوية البلاد".

وتحدث الشريف عن "تعديات على العمران الجزائري، منها ترك انهيار المباني القديمة مثلما هو حاصل لقصبة الجزائر العاصمة المصنفة تراثاً عالمياً من قبل اليونيسكو، وتشييد مبان هجينة بلا هوية ولا جماليات"، مبرزاً أن "الوضع يستدعي بناء ثقافة عمرانية من طرف الهيئات المعنية، مع سن قوانين ملزمة تحترم خصوصيات كل منطقة، وتمنع كل بناء يشكل نشازاً".

إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص