في تطور هو الأخطر من نوعه منذ بدء التحركات السعودية في محافظة المهرة في أواخر شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، أفيد عن تحضيرات جارية لإنشاء مركز سلفي في مدينة قشن، ثاني أكبر مدن المحافظة. يأتي ذلك في وقت تكثف فيه الرياض أنشطتها «الإنسانية» داخل المهرة، بالتوازي مع اتخاذها خطوات تدفع باتجاه «عسكرة» المحافظة و«تفريخ» تشكيلات مسلحة في مديرياتها على غرار عدن. مشهدية تتخذ من «مكافحة التهريب من عمان إلى المهرة» ستاراً تتشكل من خلفه، في ما يبدو أنه محاولة لاستفزاز عمان وتصعيد الضغوط عليها، خصوصاً في ما يتصل بموقفها من أزمتَي اليمن والخليج
جريدة الأخبار|بيروت| دعاء سويدان:
تشهد محافظة المهرة، الواقعة في أقصى الشرق اليمني، حراكاً سعودياً نشطاً على المستويات كافة، بات يتجاوز ما كانت قد بدأته الإمارات، قبل أشهر، في تلك المحافظة التي لم تطاولها نيران الحرب إلى الآن. هذا الحراك أضحى من الاتساع والتنوع والكثافة بمستوى يصعب معه غضّ الطرف عنه، أو اعتباره دونما غايات أمنية – سياسية، خصوصاً أنه يتخذ مساراً تصاعدياً منذ أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. مسارٌ يقرع، مجدداً، جرس الإنذار لدى سلطنة عمان، التي تجمعها بالمهرة حدود واسعة وعلاقات متينة، تصل إلى حدّ اعتبار مسقط هذه البقعة من اليمن حديقتها الخلفية، التي تحرص على ألّا تطاولها شرارات التغوّل العسكري والمذهبي.
بدأت إرهاصات «التحرش» السعودي بالظهور في النصف الثاني من شهر تشرين الثاني الفائت، مع إرسال فريق عسكري إلى منفذ شحن الحدودي ومطار الغيضة، في زيارة قيل إن الهدف منها «دراسة الإمكانات المتاحة لفرض السيطرة الكاملة على منافذ المحافظة». ترافق ذلك مع ضخّ إعلامي مكثف في وسائل الإعلام السعودية – الإماراتية، مفاده وجود عمليات تهريب أسلحة لـ«أنصار الله»، من سلطنة عمان، عبر منافذ المهرة، وهو ما نفته مسقط تكراراً من دون نتيجة. تكثفت الضغوط على قيادة السلطة المحلية، التي كانت حينها بقيادة المحافظ، محمد عبد الله كده، بهدف التراجع عن ستة شروط كانت قد وضعتها للقبول بدخول القوات الموالية لـ«التحالف» إلى المهرة، لعل أهمها ثلاثة: عدم استخدام مطار الغيضة كقاعدة عسكرية، إبقاء الطاقم الإداري والأمني والعسكري على ما هو عليه، والتنسيق الدائم مع السلطة المحلية وعدم تجاوزها.
استمر المدّ والجزر بين قيادة «التحالف» وممثلي السلطة المحلية حتى استيأست الأولى من إمكانية رضوخ الأخيرين، على الرغم من إبدائهم مرونة كبيرة إزاءها، سمحت باستقدام دفعة أولى من قوات المنطقة العسكرية الثانية، الموالية لـ«التحالف»، والموجودة في مدينة المكلا، مركز محافظة حضرموت، والدفع بها نحو منفذ شحن ومطار الغيضة حتى تكون رافداً لقوات اللواءين 123 و137، على أن يبقى ميناء نشطون ومنفذ صرفيت على حالهما، وفقاً لما أفضت إليه التسوية بين الجانبين. على الرغم من ذلك، استُصدر قرار من الرئيس المستقيل، عبد ربه منصور هادي، في 28 تشرين الثاني الماضي، يقضي بإقالة كده من منصبه وتعيين راجح سعيد باكريت بدلاً منه. قرارٌ أوحى بأن ممانعة كده لم ترُق الرياض، وبأن المطلوب تسليم كامل يدفع بالمهرة دفعاً إلى أحضان السعودية.
باكريت هو الشخصية المثالية في هذا الإطار. يبالغ الرجل في استرضاء المملكة. لا يكاد يفوّت تصريحاً إلا ويشيد فيه بـ«جهودها في تأمين المحافظة وتنميتها». «جهود» تبدأ من السلال الغذائية ولا تنتهي بتعبيد الطرقات، في استكمال لـ«جهود» «الهلال الأحمر الإماراتي»، التي لا يبدو أنها أفلحت في اختراق النسيج المهري. ومن هنا، كانت ضرورة تدخل السعودية بنفسها؛ لكون المملكة – خلافاً للإمارات – تمتلك صلات مع مشايخ قبليين في المهرة سبق أن منحتهم جنسياتها، وأدرجتهم على لائحة المنتفعين من مخصصاتها المالية. هكذا، توارت، شيئاً فشيئاً، أنشطة «الهلال الإماراتي» التي أثارت، سابقاً، امتعاضاً عُمانياً مكتوماً عبّرت عنه الوجوه الموالية للسلطنة داخل المحافظة، لتحلّ محلّها أنشطة سعودية أكثر جرأةً، وذات مدلولات أبعد مما أوحت به تحركات أبو ظبي.
ينشط «مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية»، راهناً، في استمالة ذوي الحاجة من أبناء المحافظة عبر توزيع مساعدات عينية عليهم من حين إلى آخر. يصاحب ذلك الدفع بقوافل تشمل حافلات وسيارات إسعاف وسيارات نظافة و«وايتات مياه» إلى المهرة، والعمل على سفلتة الشوارع الداخلية وإضاءتها وتشجيرها، إلى جانب تحضيرات لافتتاح وحدات صحية جديدة وتزويد الموجود منها بمعدات وأجهزة طبية. ومما وُعد به المهريون أيضاً استحداث آبار مياه وإنشاء محطة تحلية والإتيان بمولدات كهربائية وترميم مدارس وافتتاح ثلاث كليات. تتتالى تلك التطورات في وقت لا تزال فيه عدن، «العاصمة المؤقتة» للحكومة «الشرعية» وعنوان ما يسميه «التحالف» إنجازاً في اليمن، تعاني فقراً خدماتياً كبيراً على المستويات كافة، خصوصاً الكهرباء والنظافة والصحة. مفارقة تشي بأن وراء «الكرم» السعودي إزاء المهرة ما وراءه، وبأن الغرض من خطوات الرياض «الإنسانية» إنما هو انتزاع «الميل العماني» من أوساط المهريين، الذين لا يزالون يتحدثون بامتنانهم لباع مسقط الطويل في تنمية محافظتهم.
الأخطر مما تقدم، أنّ «الاستفزاز» السعودي لا يقتصر على منافسة السلطنة في الجانب الإنساني، بل يتعداه ليتخذ أشكالاً أمنية وعسكرية تنذر بتطورات «سوداوية» داخل المهرة بعد استقرار وهدوء مستطيلَين شهدتهما المحافظة. قبل أيام، وصلت الدفعة الثانية من القوات الموالية لـ«التحالف» إلى مدينة الغيضة، مركز المحافظة، وتوزعت على غير مديرية من مديرياتها. وبحسب المعلومات، فإن التعزيزات الجديدة شملت مدرعات وعربات مصفحة وأطقماً ودبابات وذخائر وقذائف متنوعة الأحجام. انضمت تلك القوات إلى الدفعة الأولى التي دخلت المهرة قبل نحو شهر، لتكون عين «التحالف» ويده الطولى في منافذ المهرة التي تؤكد المعلومات أنها، بفضل المحافظ الجديد، أضحت تحت سيطرة مشتركة بين «التحالف» والسلطة المحلية. اللافت أيضاً، والمثير للقلق في آن واحد، إلى جانب ما ذُكر، أن باكريت أعلن «فتح باب التجنيد لأبناء المهرة في الجانبين العسكري والأمني، بحسب خططنا المحلية وبمساعدة الأشقاء في التحالف». جاء ذلك في وقت سرت فيه أنباء عن تزويد السعودية حلف قبائل بوقي بن حميد (يضم قبائل سمودة وكلشات) بكميات من الأسلحة، بذريعة «مكافحة التهريب من عمان إلى اليمن». تطوّران يفتحان الباب واسعاً على سيناريو «عسكرة» المحافظة، واستنساخ «التجربة العدنية» التي يُعدّ تكاثر التشكيلات المسلحة والميليشيات المتضاربة المصالح والأهداف إحدى أبرز سماتها.
أكثر من ذلك، آخر المعلومات الواردة من المهرة تفيد بأن السعودية تعمل على إنشاء مركز للسلفيين (على غرار مركز دماج في صعدة) في مدينة قشن، ثالث أكبر مدن المحافظة. وطبقاً للمعلومات، فإن المدعو يحيى بن علي الحجوري – هو أحد مشايخ السلفية في اليمن، وقد سبق له أن أدار «دار الحديث» في صعدة خلفاً للشيخ مقبل الوادعي – هو من يتولى الإشراف على إنشاء المركز. تقول مصادر من داخل مدينة قشن إن أشخاصاً، من بينهم أجانب، متلبسين لبوس النازحين، يقومون بشراء أراضٍ بمبالغ خيالية لا تتوافق وقيمتها، لافتة إلى أن شكوكاً بدأت تحوم حول هؤلاء الذين يسود اعتقاد على نطاق واسع بأنهم من السلفيين الذين قاتلوا في صعدة قبيل الحرب الأخيرة وفي جبهة البقع على الحدود السعودية خلال الحرب. وتشير المصادر إلى أن وجود هؤلاء داخل المهرة يحظى بمباركة من المحافظ الجديد، خلافاً لإرادة المحافظ السابق الذي كان معارضاً لأي عملية «توطين» من هذا النوع. عملية ستكون، فيما لو قُدّر لها الوصول إلى نهايتها، بادرة تحقق ما حُذِّر منه سابقاً من نشوء «بؤرة تكفيرية» على حدود عمان، التي ظلت لعقود محفوظة من لوثة «الوهابية»، مستأنسة بنسيج اجتماعي متجانس يقلّ نظيره في منطقة الخليج.
في خلاصة المعطيات، يتضح أن قيادة «التحالف» تعمل، عبر سلسلة خطوات، على إحكام حبكة سردية «التهريب»، من أجل «شرعنة» وجودها في ثانية كبرى المحافظات اليمنية. وقد تجلت آخر تلك الخطوات في إصدار المحافظ باكريت قراراً بمنع دخول سيارات «الشاص» (الرباعية الدفع) والأسمدة الزراعية والمواد الكبريتية والكربونية عبر المنافذ الحدودية بين عمان والمهرة، بدعوى إمكانية استخدام المواد المشار إليها في صناعة الألغام. هذه السردية يَثبت، من خلال المعطيات المتقدمة، أن الغاية من وراء إشاعتها تسهيل «الاستيطان السعودي» لمحافظة المهرة، بهدف تصعيد الضغوط على سلطنة عمان، التي يظهر أن موقفَيها من أزمتَي اليمن والخليج لا يحظيان برضا المملكة، وإيصال رسالة إلى مسقط مفادها أن الرياض قادرة على إشعال النيران متى استشعرت أن سياسة «التمايز» باتت لا تفرق، في نتائجها، عن سياسة «المناكفة والمؤامرة» التي تُتَّهَم بها قطر. هل يعني ذلك أن عمان باتت هدفاً جديداً على جدول التصعيد السعودي – الإماراتي، خصوصاً أن بعض المصادر تتحدث عن إطلاق السفير الإماراتي لدى واشنطن، يوسف العتيبة، حملة تحريضية ضد مسقط بدعوى «دعمها للحوثيين»؟ جميع المؤشرات الواردة من الظهير الجيوسياسي لعمان لا تأخذ إلا في ذلك الاتجاه، لكن يبقى أن لدى السلطنة أوراق قوة، ليس أقلها الرضا الغربي عن دورها في الشرق الأوسط، يمكن أن تلجم جماح الرياض وأبو ظبي.