يفاخر أهالي منطقة جبل حديد بمديرية خيران المحرق، بمحافظة حجة (شمال اليمن)، من أن أراضيهم هي الموطن الوحيد للفل العزاني في اليمن، أحد أشهر النباتات العطرية التي تداعب الوجدان وتناجي العشاق والمحبين بشذاها الفواح.
ويختلف الفل العزاني الذي ينمو على سفوح الجبال، عن الفل الأبيض الذي يزرع في السهل التهامي، فحباته الصفراء كبيرة الحجم، ولها رائحة تفوق بجمالها أشهر العطور الفرنسية، ويتم نظمه في عقد يسمى (عكاوة)، ليلفه الرجال والنساء بالمناطق الجبلية والتهامية على حد سواء، حول رؤوسهم، كمظهر من مظاهر الزينة.
وتبدأ رحلة حبة الفل العزاني من مزارع ومنازل السكان في جبل حديد الشاهق، حيث يعتنون بزراعة شجرة الفل العزاني، فتجد في كل منزل شجرة فل أو أكثر يتم جني محصولها من حبات الفل، ثم نظمها في المنازل بطريقة منسقة، وترسل مباشرة إلى الأسواق القريبة.
ويعتني المزارعون في منطقة جبل حديد بمحافظة حجة، بهذه النبتة العطرية الجذابة، وزراعتها في فصل الصيف، حيث يكثر إنتاجها، ويتم سقيها في أوقات محددة، وجنيها بعناية عن طريق قطف حبات الفل الواحدة بعد الأخرى.
تقليد متوارث
تنظم حبات الفل العزاني في عقد طويل تتراص حباته جنباً إلى جنب، في اتساق جميل تزين رؤوس الرجال والنساء في المناطق الجبلية والتهامية بمحافظة حجة، في الأفراح والمناسبات، كتقليد متوارث تناقلوه عن الآباء والأجداد منذ مئات السنين.
وتشتهر منطقة جبل حديد بطبيعة ساحرة ومرتفعات خضراء وسهول وأودية، وميزها الله بأن أنبت فيها أزهاراً شذية وزكية من نباتات الجبال العطرية من فل عزاني ومشاقر وكاذي ونرجس ووالة تتزين بها النساء من قديم الزمن، سواء المرأة الجبلية التي اشتهرت بلباسها الجبلي، أو المرأه القروية في السهل التهامي، أو تلك التي تسكن المدينة.
ومن يزور منطقة جبل حديد يعرف روائح زهور الفل العزاني التي تعطر أنهجها وأزقتها، وتزخر المزارع بأشجار الفل التي تزرع عادة في الحدائق الخارجية، لتمتد على أسوار المنازل، وتطل على الشوارع برائحتها الزكية وشكلها الساحر.
زهرة صيفية
يرتبط فصل الصيف بالفل العزاني؛ هذه الزهرة الندية التي تتميز بلونيها الأخضر أو الأصفر، ورائحتها الفواحة العبقة، والتي يحتفي بها أبناء محافظة حجة كثيراً في موسم قطافها، ويبدؤون أمسياتهم الصيفية باقتنائها.
ويزهر الفل العزاني في فصل الصيف، ويتميز بكثرة الإنتاج في هذا الفصل، وزيادة الطلب عليه، وسعر “العكاوة” يتراوح ما بين 300 و500 ريال، ويتضاعف سعرها في فصل الخريف بشكل كبير، ليصل الى نحو ألف ريال.
وخلال فصل الصيف، لا تكاد تمر بإحدى مدن أو قرى محافظة حجة إلا وتجد باعة الفل العزاني يتجولون حاملين باقات زهورهم بشكل بديع، متنقلين بين الشوارع والحواري والأسواق، يبيعون بضاعتهم الطيبة الرائحة بأسعار في متناول الجميع.
مورد اقتصادي
ويعد الفل العزاني من أهم الموارد الاقتصادية في المنطقة، حيث تحرص الكثير من الأسر على زراعته وجلبه إلى الأسواق في مواسم الحصاد، وبيعه وبأسعار باهظة أثناء مناسبات الزواج والأفراح والأعياد، على شكل عقود منظومة، ليعود بوفرة مالية على أصحابه.
يقول محمد عبده، بائع فل عزاني في مديرية أسلم بحجة، والمجاورة لمديرية خيران المحرق، موطن زراعة الفل، إنه يمثل مصدر رزق له وللعديد من أبناء المحافظة الذين يعملون في بيعه خلال فصل الصيف، ويلقى رواجاً كبيراً في الأعراس والمناسبات والأعياد.
وأوضح في حديثه لـ”المشاهد” أن حركة بيع الفل العزاني تنشط خلال فصل الصيف، أما في الشتاء فيضعف الإنتاج تدريجياً حتى ينعدم، مما يتسبب في ارتفاع أسعاره، ويتوقف في شهر رمضان تماماً، ثم يزدهر في الصيف وفي شهري أغسطس وسبتمبر.
وأشار عبده إلى أن الفل العزاني يلقى رواجاً كبيراً لدى الناس، حيث ينتشر بائعوه في أسواق المنطقة الأسبوعية الشعبية في مختلف المدن، لتلبية متطلبات أبناء تهامة من الفل العزاني ذي الرائحة الفواحة، الذي يكمل جمال ورونق المرأة، بحسب قوله.
ولفت إلى أنه يبيع في أيام الأعراس والمناسبات ما بين 100 و200 عقد من الفُل العزاني، تتراوح قيمة العقد الواحد ما بين 300 و500 ريال.
تاريخ وعطور
يقول محمد الخميسي، صاحب مزرعة فل عزاني في جبل حديد، إن تاريخ الفل يعود إلى بداية القرن الماضي، ورغم هذه المدة الطويلة لم تتم الاستفادة من هذه النبتة الطيبة، والسعي للتفكير جدياً في استثمارها كعطور أو كمواد تجميل.
وأضاف في حديثه لـ”المشاهد” أن زراعة الفل العزاني الذي تشتهر به منطقتهم، لم تعد مجرد هواية، بل أصبحت حرفة وتجارة ينتفع منها الكثيرون، مشيراً إلى أنه لا توجد أرقام رسمية حول الحرفيين، ولا أرقام حول المنتوج الحقيقي لنبتة الفل العزاني.
وتمنى الخميسي، في ختام حديثه، أن يأتي اليوم الذي تتم فيه الاستفادة من هذه الزهرة النادرة بالشكل المطلوب، بما في ذلك استخلاص العطور، وصناعة منتجات الفل العزاني، وتوسيقها إلى جميع أنحاء العالم.
حكايات عشق وفرح
ولعل مكانة الفل العزاني الذي تشتهر به محافظة حجة، وتنفرد بزراعته عن بقية المحافظات، لم تقف عند الاستمتاع بعبق رائحته الجميلة، موضوعاً على الرأس أو محمولاً باليد، أو حتى موضوعاً في الجيب، بل تعدته لتكون حديث الشعراء في قصائدهم.
ويشكل الفل العزاني إلى جانب الفل الأبيض أو ما يسمى باللهجة التهامية (القريشي)، ثنائياً متميزاً وفريداً من نوعه، حيث تتفنن بعض النسوة اللاتي يتخصصن في تجهيز أطواق الفل بنوعيه القريشي والعزاني، بطرق فنية رائعة لتوضع على رؤوس الفتيات في الريف والحضر بأشكال بديعة تسر الناظرين.
للفل العزاني في محافظة حجة حكايات من العشق والفرح، ترتسم حباته عناقيد من الجمال، وإن كانت أدوات الزينة والتجميل الصناعية تلقى رواجاً، فإن الفل لا يزال حتى اليوم هو المحبوب الفريد والوحيد الذي تتزين به النساء في تلك المنطقة، فيرسل عطراً فواحاً زكياً لم تنجح أرقى العطور العالمية في تقليده.
*المشاهد