ثوار أكتوبر المنسيين..الشماسي نموذجا

لم تكن بريطانيا تفكّر بالخروج من جنوب اليمن بتاتاً. حسبت أن كلّ مناطق الجنوب جزء لا يتجزّأ من المملكة التي لا تغيب عنها الشمس. ظلّ هذا الوضع قائماً لفترة تربو على 148 عاماً، شكلت فيها المملكة المتّحدة مؤسّسات محلّية تابعة لها، ومن أهم تلك المؤسّسات "جيش البادية"، أو "الجيش البدوي" في حضرموت، الذي أراد الإنجليز من إنشائه أن يكون العصا الغليظة لهم في مناطق نفوذهم، وبأبناء المناطق التي يحتلّونها. وبعد أن استقدمت بريطانيا عدداً من الخبراء العرب، تمّ تأسيس الجيش الجديد الذي بلغ قوامه 1497 ضابطاً وصفاً وجندياً، جُلّهم من أبناء حضرموت الذين كانت لهم أهداف أخرى عندما انخرطوا في الجيش الفتي الذي وصف في حينه أنه أفضل من جيوش دول الكومنولث، حيث لم يكن أبناء حضرموت بمعزل عن الأحداث والإرهاصات التي صنعت ثورة 14من أكتوبر المجيدة، والتي أنهت احتلال الإنجليز لليمن. أسماء كثيرة من أبناء الحضارم في الساحل والوادي والصحراء كانت لهم صولات وجولات في مقارعة المستعمر الأجنبي، دون أن يلتفت إليهم الإعلام، حتّى حُصر النضال بأسماء معينة لأسباب متعلّقة بصراعات سياسية شوّهت التاريخ النضالي لأبناء الجنوب. العميد الركن سالم عوض الشماسي ، إبن منطقة بروم، كان أحد أهمّ قيادات جيش البادية، الذين شاركوا في صناعة الثورة. 

التنظيم السرّي 
إنضمّ الشماسي للجيش الجديد بعد إكمال تعليمة الأوّلي في مدرسة الثورة الخاصّة بأبناء البدو الرحّل في المكلا، وكان واحداً من القيادات التي انضمّت إلى التنظيم السرّي، وهو أحد أهمّ الفصائل العسكرية التي ناضلت لطرد المستعمر البريطاني في حضرموت، والذي ساهم في إسقاط المكلا قبل عدن. يقول الشماسي "في تلك الفترة كنت المسؤول الثاني عن الجيش البدوي، حينها كان التنظيم المناهض للإنجليز سرّياً، تشكّل من بعض الضبّاط والأفراد وأبناء القبائل، وكنا نلتقي في مناسبات الأعياد وبعض المناسبات الإجتماعية نحن وقيادات التنظيم، ومنهم علي ياهري وسالم محمد وعلي باربار ومصبح كرامة وعبدالله حيدان وعمر الجابري، والعديد... لا أستطيع حصرهم جميعاً، وعلى رأسهم الأخ خالد عبد العزيز وعبد الله البار والحاج صالح ومحمد محفوظ، وكثير من الشباب، وكلّهم كانوا رفقاء السلاح والنضال، وعملنا سوية بمسؤولية عالية تجاه الوطن، لم نكن ننصاع لأوامر البريطانيين، وأجبرناهم على تسليم حضرموت لنا، وبعد وكنا ندعم رفاق النضال في عدن بالسلاح والمال وبسرّية تامّة، حتّى اندلعت ثورة الـ 14 من أكتوبر عام 1963، وقد سلّمنا كلّ صلاحياتنا للجبهة القومية في المكلا، لأننا أيضاً كنا جزءاً منها".  
إستلم الشماسي قيادة جيش البادية من خالد باراس، الذي كلّف لعمل آخر في سيئون، وسمّي جيش البادية فيما بعد "لواء الإستقلال". لم يتغيب العميد سالم عن النشاطات الإجتماعية والرياضية في حضرموت لتعميق التواصل مع الشباب الحضرمي وكسب ولائهم الوطني، حيث قام بتأسيس نادي شعب حضرموت وكان أحد أهمّ اللاعبين فيه.

إثبات وجود 
وبعد الإستقلال، فضّل الشماسي مواصلة تعليمه، كون المرحلة تتطلّب وجود قيادات ذات كفاءة علمية كبيرة، وعلى إثر ذلك انتقل للدراسة في القاهرة، ثم إلى روسيا، حتّى حصل على الماجستير في العلوم العسكرية من الاتّحاد السوفييتي، عاد الشماسي إلى حضرموت، وفي تلك الفترة الطويلة التي أعقبت الاستقلال اشتدّ الصراع بين اليمين واليسار لإثبات الوجود. 
وكان الشماسي يُصنّف يسارياً، ولرفضه للصراعات التي كانت سائدة بين مختلف القوى الوطنية في الجنوب، ولمواقفه المناوئة للعنف، اعتقل من قبل السلطة الحاكمة آنذاك، وأقصي من عمله، وتمّ تنزيل رتبته من رائد إلى نقيب، نكاية من خصومه لمواقفه.  
ولأن المناضل الحضرمي كان يتكلّم الروسية والبلغارية والإنجليزية بطلاقة، وبعد ضغوطات كبيرة من بعض الضبّاط والمناضلين المقرّبين من السلطة الحاكمة آنذاك، عيّن الشماسي ملحقاً عسكرياً في بلغاريا، ثم عاد إلى عدن ليعيّن مديراً عامّاً لشركة النفط في عدن، قبل الوحدة، ومن ثمّ عيّن مديراً عامّاً لدائرة شؤون الأفراد، وفي وزارة الدفاع بجمهورية اليمن الديمقراطية.

نكران للنضال :

 وعقب الوحدة، عيّنه الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، مديراً لمكتب القائد الأعلى للقوّات المسلحة لشؤون الأفراد. وقعت حرب عام 94م، وقبل الحرب نصح الشماسي على سالم البيض ورفاقه بالعدول عن قراراهم، ولكن دون جدوى، فعاد إلى صنعاء ليعتكف الشماسي بمنزله في صنعاء، مبدياً الرفض القاطع لمسألة الإنفصال. 
وبعد تثبيت الوحدة، استدعي الشماسي من قبل صالح ليعيّنه ركن القوى البشرية للقوّات المسلّحة والأمن في مكتب القائد الأعلى للقوّات المسلّحة، ومن ثمّ رئيساً لجمعية أسر الشهداء وجرحى الحرب للقوّات المسلّحة. توفّي الشماسي في منزله المستأجر بصنعاء، بعد صراع طويل مع المرض، وبعد أن باع كلّ ما يملك لسداد تكاليف العلاج في المشافي اليمنية والأردنية، ودفن في مقبرة النجيمات بصنعاء، دون أن تقدّم له وزارة الدفاع ريالاً واحداً للدفن، وغيرها من الحقوق، وأبسط الواجبات عليها كتقديم التعازي عبر وسائل الإعلام اليمنية، بحسب ما ذكره لنا نجله صلاح، أكبر أبناء الشماسي الثمانية.