كما يعلم الكثيرون نشهد هذه الفترة ارتفاعاً لأسعار صرف الدولار في اليمن وهذا مؤشر على اختلال في العرض والطلب في السوق. يراقب المهتمون بالشأن الاقتصادي والإنساني هذا الارتفاع بقلق بالغ حيث يتوقع أن ينعكس على أسعار السلع الغذائية الأساسية ويفاقم من معاناة المواطنين. ويأتي هذا الارتفاع بسبب الفشل الذريع والفساد وفي بعض الأحيان التخريب المتعمد الذي عمدت عليه الأطراف السياسية في اليمن. عانت اليمن من انعدام مصادر العملة الأجنبية بعد توقف تصدير النفط والغاز واستنزاف احتياطيات النقد الأجنبي في بداية الحرب لتغطية فاتورة استيراد المواد الأساسية، وحتى بعد استئناف الحكومة لتصدير بعض شحنات النفط لم تكن الكميات المصدرة والإيرادات من هذه الكميات بمستوى تغطية احتياجات اليمن من النقد الأجنبي للاستيراد. بعدها قامت السعودية بالإعلان عن وديعة بمبلغ ٢ مليار دولار للبنك المركزي في عدن في فبراير ٢٠١٨، إلا أن الفترة الطويلة التي استغرقها الوصول إلى اتفاق على إجراءات استخدام الوديعة وتطبيق هذه الإجراءات بشكل سلس وفعال، بالإضافة إلى ضغط الحوثيين في صنعاء على البنوك والتجار بعدم التعامل مع إجراءات البنك المركزي في عدن، أدى إلى تدهور متسارع في أسعار الدولار في نهاية ٢٠١٨، تم تداركه بتفعيل الإجراءات وانتظامها مما أدى إلى استقرار نسبي في أسعار الصرف من بداية ٢٠١٩ إلى الاَن.
تغطي الوديعة احتياجات مستوردي المواد الغذائية مثل القمح والرز من اعتمادات بنكية بالدولار بسعر ٤٤٠ ريال، إلا أنه خلال الثلاث أشهر الماضية توقف الجانب السعودي عن إصدار الموافقة لتغطية الاعتمادات من الوديعة، وتراكمت ست طلبات مرفوعة من البنك المركزي في عدن لاعتمادات التجار بمئات الملايين من الدولارات، مما اضطر البنك المركزي أن يوجه التجار بشراء الدولار من السوق واستيراد المواد وسيقوم المركزي بتعويضهم عن الفارق عند الحصول على الموافقات من الجانب السعودي. يبدو أن الجانب السعودي توقف عن إصدار الموافقة بسبب عدم الوصول إلى اتفاق مع البنك المركزي حول بعض الشروط المتعلقة بالوديعة. اتجاه التجار إلى السوق سبب ضغطاً أدى إلى ارتفاع سعر الصرف الذي نشهده. بالإضافة إلى ذلك، تنخفض ثقة التجار مع مرور الوقت بإمكانية حصولهم على الدولار بالسعر المدعوم من البنك المركزي، وبالتالي يتوقع أن يبدأوا برفع تسعير موادهم ليقتربوا من أسعار الصرف في السوق (بدلا من تسعيرها من صرف ٤٤٠ سيقتربون من سعر ال ٦٠٠). الأسوأ من ذلك أن عدم معالجة هذا التأخير وعدم الوضوح من البنك المركزي في سياسته النقدية وكذلك عدم الوضوح في السوق عن متطلبات الجانب السعودي لاستئناف الموافقات على الاعتمادات، بالإضافة إلى قرب استنزاف مبلغ الوديعة وعدم الوضوح في السوق عن شروط الوديعة السعودية وإعادة تسديدها وإمكانية تقديم وديعة إضافية من السعودية عند انتهاء الوديعة الحالية، وأخيرا استمرار الحوثيين في صنعاء بإدارة سياسيات نقدية منفصلة عن البنك المركزي في عدن وعدم وضوح وشفافية وسلامة هذه السياسات والإجراءات، كل هذه العوامل قد تؤدي إلى استمرار تدهور أسعار الصرف إذا لم يتم تداركها بسرعة.
فشلت الأطراف السياسية اليمنية في الوصول إلى اتفاق حول إدارة السياسة النقدية بشكل فعال ومتناسق بين صنعاء وعدن، وتنافسوا في تطبيق إجراءات وسياسات فاشلة عانى منها المواطن بشكل أساسي، لم تلتزم صنعاء ولا عدن بأدنى مستويات الشفافية والحوكمة في إدارة البنك المركزي وإدارة الدورة النقدية، ونجح تجار الحروب في الجانبين في تحقيق فوائدهم وأرباحهم وتحقيق أجنداتهم وأهدافهم الخاصة بأشكال مختلفة من التحايل والمراوغة والفساد، كل هذا على حساب المواطنين اليمنيين ولقمة عيشهم. لقد بحت أصواتنا ونحن نطالب بتجنيب الاقتصاد وإنقاذ المواطن من اَثار الحرب على أبسط مقومات الحياة وهي الغذاء والدواء. بذل الكثيرون المحاولات تلو الأخرى للوصول إلى شكل من أشكال الاتفاق حول هذا الحق البسيط للمواطنين إلا أن الأجندات السياسية وقفت حائلا دون ذلك. إلى متى تستمر هذه المعاناة ويستمر هذا التجاهل والاستهداف من قبل النخب السياسية لقوت المواطنين وحقهم في الحصول على أدنى متطلبات الحياة الكريمة؟
رأفت الأكحلي