واحد من أعظم المحاربين في القرن العشرين، ومن المعدودين في صفحات التاريخ، هو المناضل الجنوب أفريقي (نيلسون مانديلا).
العجيب أن هذا المقاتل الصنديد الذي أنهى أسوأ نظام عنصري عرفته البشرية، لم يطلق رصاصة واحدة، إذ كان محاميًا في الأصل، لكن روحه التواقة للحرية كانت السلاح الذي رفعه، وعدالة قضيته هي الرصاصة الوحيدة التي استخدمها، ويا للدهشة، فقد رأى العالم كيف انهار نظام “الأبارتايد” واستسلم الرجال البِيض الوافدون من أوروبا، وتنازلوا سلميًّا عن السلطة لأبناء الأرض الأفارقة.
300 عام من الاحتلال الأجنبي، عانى خلالها شعب جنوب أفريقيا من الإذلال والتمييز العنصري، وتجرع القوانين المتحيزة الظالمة، وتحمّل ما لا يطيقه بشر من النبذ والإفقار والحرمان من أبسط الحقوق، وتفاصيل تلك المظالم التي رزح تحتها شعب جنوب أفريقيا مدونة في كتب التاريخ، وهي تقريبًا أبشع واقعة استعمار في العصر الحديث.
لكن ماذا فعل نيلسون مانديلا عندما استلم السلطة في عام 1994 وأصبح رئيسًا للجمهورية؟ هل انتقم من الأقلية البيضاء؟ هل ثأر ممن زجوا به في السجن لمدة 27 عامًا؟ المحارب الحقيقي لا ينتقم، لا يسعى للثأر، بل يعفو ويصفح، وقد أثبت ذلك بعد أن صار قادرًا على البطش بهم بإشارة صغيرة من أصبعه.
لقد هزم نيلسون مانديلا أعداءه مرتين: الأولى عندما رفض نفي التهم المنسوبة إليه، وألقى بيانًا تاريخيًّا في المحكمة يشرح دوافعه للنضال ضد نظام الفصل العنصري، والثانية عندما طلب من مواطنيه السود الصفح عن الأقلية البيضاء ونسيان الماضي.
لقد قدّم نيلسون مانديلا نفسه كقدوة لشعبه، ودعا (بيرسي يوتار) إلى مأدبة غداء في القصر الرئاسي، وهو المدعي العام الذي ترافع ضده في محاكمات ريفونيا، وتسبب في نيله الحكم بالسجن المؤبد.
وهو في هذا الموقف لم يكن منافقًا يهدف إلى تلميع صورته في وسائل الإعلام، ولكنه موقف نابع من أعماقه، وعن قناعة داخلية تبلورت بمرور الأعوام.
يروي أحد حراسه واقعة حدثت في أحد الأيام، عندما طلبوا من الرئيس الذي كان يتنقل من مكان لآخر أن يتوقفوا عند أحد المطاعم لأنهم يشعرون بالجوع، فوافق مانديلا، ودخلوا إلى أحد المطاعم، وطلبوا الغداء، وبعد قليل دخل رجل أبيض مسن إلى المطعم وقعد بعيدًا، فأرسل إليه مانديلا أحد حراسه ليطلب منه الانضمام إلى مائدتهم.. بعد خروجهم من المطعم، علق أحد الحراس قائلاً إن الرجل الأبيض مريض، لأن يديه كانتا ترتجفان وهو يأكل، رد عليه مانديلا إن الرجل الأبيض لم يكن مريضًا، ولكنه كان خائفًا، فاستغرب الحراس، فأخبرهم مانديلا أن هذا الرجل كان في شبابه أحد سجانيه، وطلب منه مرة أن يسقيه ماءً فتبول على رأسه..
نحن نتساءل هل يمكن أن يمتلك أيّ سياسي يمني هذه المقدرة العظيمة على التسامح؟ هل لدينا قدوة يقتدي بها اليمنيون لنسيان الماضي وبدء صفحة جديدة، ليعيش الجميع في سلام وأمان؟؟
لقد عفا النبي يوسف – عليه السلام – عن إخوته وهو في الجبّ، وجريمتهم ما تزال طازجة، وهو على شفا الموت جوعًا وعطشًا، سامحهم رغم أنه طفل لم يكتمل نموه العقلي والبدني، بينما إخوته الكبار الذين لا يصلحون لموقع القيادة، ولا يرتقون لشيء أكثر من رعي الدواب، ظلوا يحملون الحقد عليه، وينتقمون منه متى أُتيحت لهم الفرصة، فلما اتهم بنيامين بسرقة صواع الملك، قالوا “إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل”، يقصدون أخاهم الصغير يوسف الذي فارقهم قبل 36 عامًا، ولكن رغبتهم في الانتقام منه لم تهدأ ولم تفتر!
ولعل إخوة يوسف في ذلك الموقف الذي فضح نفسيتهم البشعة، هم أنموذج للأشخاص الرديئين، الذين يظل الانتقام هو هدفهم المسيطر على تفكيرهم طوال حياتهم.
هناك فارق بين نفسية الإنسان المتسامح، ونفسية الإنسان المنتقم، ولذلك فضَّل الله يوسف على إخوته واختصه بالنبوة.
حينما حسم النبي – صلى الله عليه وسلم – الصراع مع قريش، وانتصر على خصومه الذين أذاقوه أصنافًا من العذاب والإهانات، وحاصروه وطاردوه طمعًا في قطع رأسه، لم يعاملهم بالمثل، ولكنه تسامح معهم، وقال لهم “اذهبوا فأنتم الطلقاء”.
هكذا نفهم أن الفرق بين شخصية القائد وشخصية الإنسان العادي، هي فضيلة “التسامح”.
الإنسان العادي ليس متسامحًا، إنه يسعى للثأر، يكرس حياته للانتقام من أعدائه، إنه شخص موبوء بالكراهية.
تلقّى نيلسون مانديلا أكثر من 250 جائزة، منها جائزة نوبل للسلام 1993، وميدالية الرئاسة الأمريكية للحرية، ووسام لينين من الاتحاد السوفييتي.. أيّ أن العالم من شرقه إلى غربه قد أجمع على عظمته، لذا نحن أمام إنسان لم يكن يصلح لقيادة دولة جنوب أفريقيا فقط، ولكنه يصلح ليقود العالم بأسره.
لم يكن نيلسون مانديلا قائدًا جاهلاً، فقد درس في أربع جامعات: جامعة فورت هير، جامعة جنوب أفريقيا، جامعة ويتواترسراند، جامعة لندن منتسبًا أثناء فترة اعتقاله.
لم يكن مانديلا متشبثًا بالسلطة، فعندما انتهت فترة رئاسته في عام 1999، رفض بشدة أن يترشح لفترة رئاسية ثانية، وأعلن أنه سيتفرغ للعمل الخيري.
لم يهمل مانديلا لياقته البدنية، سواءً أكان في السجن أو في القصر، وفي أهم يوم في حياته، وهو يوم إطلاق سراحه، حين كان جدول أعماله مزدحمًا للغاية بخطابات جماهيرية، ومواجهة جيوش من الصحفيين والمراسلين، واتصالات تهنئة هاتفية من قادة دول العالم، فإن أول شيء بدأ به يومه هو التمارين الصباحية.. لقد كان العالم على وشك أن ينقلب رأسًا على عقب، لكنه حافظ على روتينه الرياضي.
كان يدرك أن اللياقة البدنية تحافظ على اللياقة الفكرية، وأن القائد الجيد لا بد أن يحرص على لياقته البدنية، ليتمكن من اتخاذ القرارات الصحيحة.
إن القائد الخامل، الكسول، الذي يقضي سحابة يومه مستلقيًا على ظهره، أو ملتصقًا بكرسيه، لن يتمتع باللياقة الفكرية الكافية لإدارة شؤون الدولة.
امتلك نيلسون مانديلا الشجاعة الأدبية ليعترف في مذكراته “مسيرة طويلة من أجل الحرية” بأنه وقع في العديد من الأخطاء خلال رحلة كفاحه:
“ولقد سرت ذلك الطريق الطويل نحو الحرية، وحاولت ألّا أتعثر، ولكنني اتخذت خطوات خاطئة على الطريق”.
الرسالة الإنسانية العظيمة التي حملها نيلسون مانديلا هي تحرير البِيض والسود من الكراهية والتحيز وضيق الأفق، يشرح ذلك بقوله:
“وحينما خرجت من السجن كانت مهمتي هي تحرير الظالم والمظلوم وقد يقول البعض إنه قد تم إنجاز ذلك ولكني أعلم أن هذا غير صحيح، فقد خطونا الخطوة الأولى فقط على طريق أطول وأصعب، فلأن تكون حرًّا لا يعني فقط أن تُلقي بقيدك، لكن أيضًا أن تعيش بطريقة تحترم وتُعلي من حريات الآخرين”.
بهذه الكلمات القليلة يقدم مانديلا خلاصة تجربته السياسية، وهي وصفة علاجية ناجعة يمكن لليمنيين الاستفادة منها.
إضافة تعليق