ذ رشفة من الشاي ثم التفت إلي مبتسما، "سأخبرك بقصة في غاية الدهشة، لواقعة قضائية لم يسبق لها مثيل في تاريخ القضاء"، إنها تكشف ما وصلت إليه المنظومة القضائية من وضع مهترئ وما أصاب بيت العدالة من اختلالات توشك أن تعصف بالبلاد كلها..
استهلكت عددا من أكواب الشاهي وأنا أخوض نقاشا ساخنا مع المحامي عبد الباري الشرعبي على إثر برنامج كان يعرض على التلفاز حول عصمة القضاء وحصانة القضاة، والمصائب التي حلت بملايين اليمنيين من تحت رأس التعاطي المغلوط والمتعمد مع تلك الحقوق سواء من قبل القضاة أو المحامين أو وكلاء وأعضاء النيابات والمحاكم..
حاولت أن أجد مبررات للعدالة القضائية المفقودة منذ عقود في البلاد، لكني فشلت ولم لكن لدي خيار سوى الاستسلام أمام الطرح القانوني المستند إلى الحجة، رغم نبرة صوته الهادئة.. لقد أجبرني على الاستماع للقصة التي وصفها بالمدهشة، وقال إنها وقعت في نيابة استئناف الضالع ومحكمة دمت الابتدائية.. واعتبرها دليلا قطعيا على جرم ما يرتكب بحق القضاء ويشوه نزاهته ويخدش قدسيته..
واقعة محكمة دمت:
مختصر هذه الواقعة القضائية الغير مسبوقة، أن القضاء أصدر حكما مستندا على "صورة" لوثيقة زعم الشاكي (أ.أ.الغويزي) في عام 2008 أنها محرر مزور، وأصر على أن التعامل بها جرى عام "2006"، رغم أن هذا الوثيقة مؤرخة في 2009م.. فضلا عن استئناف العمل على قضية ساقطة بفعل التقادم وعقد جلسات سرية دون إعلام المشكو به وصولا إلى إصدار حكم باطل جعل من المحكوم عليه البريء فارا من وجه العدالة..
وللوقوف على التفاصيل يذكر المحامي الشرعبي أن صورة مزعوم محرر عرفي مؤرخ في 30يناير 2009، دفع نيابة دمت الابتدائية للمسارعة بالتحقيق وتصرفت بأوراق القضية وفقاً للقانون وانتهت إلى قرار بألا وجه لإقامة الدعوى الجزائية قبل المشكو به (م.الاقطع) لمزعوم صورة محرر ليس لها اصل على الاطلاق، وعدم كفاية الأدلة.
انتهينا بنقطة على نهاية سطر الأداء المثالي في رحلة التقاضي هذه، ومن على سطر جديد يبدأ فصل العبث والمخالفات المذمومة والمفضوحة في سير إجراءات التقاضي، يقول المحامي عبد الباري الشرعبي- وهو المطلع على الأمر بكافة تفاصيله- :" خالفت نيابة استئناف الضالع لصريح الواقع والوقائع والشرع والقانون، وأقدم عضو النيابة (ف.حاتم) في يوليو 2009 على تغيير وتكييف الواقعة حسب ما املاه عليه مزعوم الشاكي من واقعة مزعوم محرر عرفي الى واقعة مزعوم محرر رسمي، ومن غير جسيمة الى جريمة جسيمة دون وجود أي ادلة على ذلك".
يغير المحامي نبرة صوته المعهودة، ويمزجها بقهقهة خفيفة، قائلا " أنا أعرف المشكو به (م. الأقطع)، شخص بسيط وهادئ، لا يجب المشاكل ولا يدور بعدها".. لقد قدم دفاعه في نوفمبر 2009 لمحكمة دمت الابتدائية التي أفرجت عنه بالضمان الحضوري ومتابعة إجراءات التقاضي.. ولم يحدث أن اعترضت النيابة على ذلك.
الفصل الأخير والمثير في هذه الواقعة وردا مختصرا على لسان المحامي، فقد مضت الإجراءات بحضور المشكو به ومحاميه حتى يوليو 2015، قبل أن تتوقف الإجراءات ولم يعقد القاضي (ح.س. المحمودي)، أي جلسة حتى أغسطس 2020 أي نحو 7 سنوات، وهو ما يجعل القضية تسقط بالتقادم، لكن المفاجأة أن القاضي عقد بعدها جلستين سريتين دون إعلام النيابة للمشكو به (الأقطع) مع عملها بعنوانه ومكان إقامة الضامن لتصدر بعد شهر تقريبا حكما بسجن المشكو به، -وبحسب المحامي الشرعبي- فإن القاضي أثبت ظلما في ديباجة الحكم أن المشكو به فارا من جه العدالة قاصدا ترتيب آثار قانونية سالبة للإضرار به، رغم وجود ضمان لدى النيابة العامة.
مكامن الداء وعلل القضاء:
واقعة التقاضي بين الخصمين (الغويزي – الأقطع) ليست حتما مرتكز حديثنا، لكنها كانت المدخل المثالي لما نود الكتابة عنه من اختلالات وتجاوزات ومخالفات شابت أداء أبزر أركان المنظومة العدلية وشوهت قطاع القضاء وشككت في عدالة ونزاهة مؤسساته وهاماته..
عبد السلام الحاج وهو محامي مخضرم.. يعتب كثيرا على ما يحدث من ألاعيب داخل أروقة الكثير من المحاكم والنيابات، وما يسمح به أو يغض النظر عنه من استخفاف بإجراءات التقاضي وانتهاك حرمة الأدلة وإسقاط الاشتراطات الواجبة لمنح تلك الأدلة مشروعيتها وقانونيتها..
ويضيف الحاج "مكونات المنظومة القضائية والعمل فيها تستند على آليات في غاية الحساسية، هي عبارة (عن أدلة، براهين، وثائق، مستندات، محاضر، ملفات، نصوص وألفاظ، مواد وقوانين وتشريعات.... ).. وهذه غالبا ما تكون مقصد المتلاعبين الذين يحاولوا حرف الحقائق وقلب الوقائع، من خلال التزوير المباشر وغير المباشر فيها".
يؤكد المحامي عبد الباري الشرعبي اطلاعه على أحكام صدرت مخالفة تماما عن حيثيات القضية، والسبب حسب قوله "هو تلاعب بعض أمناء السر"، فتحت إغراءات الرشوة يقوم أمين السر (صاحب الضمير الميت) بتحريف ما يملي عليه القاضي خلال الجلسة بما يخدم مصلحة (الراشي)، وربما يكتب صدقا ما أملي عليه، لكنه يقوم باستبدال المحضر وتقديمه في وقت لاحق إلى القاضي ليوقع عليه، وعند حجز القضية يكون القاضي قد اطلع على حيثيات بعيدة كليا عن واقع القضية، ويصدر بموجبها حكما ظالما وجائرا أقل ما يوصف عنه أنه مهزلة ومسخرة.
إرادة الإصلاح القضائي:
حالة الشخط الشعبي والنقمة ضد القضاء والسلطة القضائية، إنما هي نتاج حتمي لعقود من غياب العدالة وتغييب حق الناس في الحصول على فرص عادلة للتقاضي بين الناس، والتلاعب الحقوق، و انتهاك حرمان وأموال وأعراض المواطنين.. لا نقول من الجميع.. وإنما من قبل كثير من العاملين في المنظومة القضائية من قضاة ومحامين وأمناء وكتاب وغيرهم..
وما أوردناه سلفا في قصة واقعة التقاضي الغريب بمحكمة دمت، يظهر حجم التلاعب والهزيلة والتجاوزات المفضوحة، التي يدرك أصحابها وجود أدلة ووثائق ببطلان ما يفعلونه ومع ذلك تأخذهم العزة بالإثم، ويحتمون خلف الحصانة والقدسية التي منحوها لأنفسهم بغير وجه حق..
ولعل تلك الواقعة الغير مسبوقة تجسد ما ورثناه عن النظام السابق من منظومة قضائية معلولة ورثة، يتوجب معها أن توجد السلطة الحالية إرادة قوية والمبادرة على إصلاحها القضاء بشكل كامل وتداركه قبل سقوطه وانهياره..