تجمع قيادة السيارة على طريق قمة تشابمان بمدينة كيب تاون بين الانبهار بالإبداعات الهندسية، والاستمتاع بمشهد الساحل الخلاب.
كنا قد شارفنا على الانتهاء من تناول وجبة الغداء في مطعم "ريد هيرينغ" بضاحية "نوردهوك" جنوبي مدينة تاون، وسألني كول، وهو صديق لنا يعيش في المدينة، "أي الطرق ستسلكون للعودة إلى المدينة؟"
وهنا بدت على وجهي أنا وخطيبي علامات الحيرة. وبادرت بالقول: "كنا نعتزم الاسترشاد بتطبيق خرائط غوغل". وما إن تحول الحديث بينهما إلى المرور وأفضل الطرق للعودة إلى الفندق، حتى انسحبت لأفوز بآخر شريحة متبقية من طبق البيتزا، وأستمتع بمشاهدة الأصيل الذي أضفى لونا فضيا على المشهد بأكلمه.
ومن دون مقدمات، هبّت رياح عاصفة على المحيط الأطلسي حتى صرت أرتجف من البرد. فالشتاء هنا في غربي كيب تاون بارد في المساء ولكنه مضيء بلون فضي، كأنه فولاذ لامع.
وسمعت كول يقول: "أنصحكم بسلك طريق قمة تشابمان عند العودة إلى كيب تاون، فهو طريق ممتع".
وعزمنا الأخذ بنصيحة كول، وسددنا الحساب، وودعنا كول، وطلبنا من تطبيق خرائط غوغل أن يأخذنا إلى هذا الطريق، ولم نكن ندري أننا على وشك مشاهدة مناظر لم نر لها مثيلا من قبل.
ومن فوق قمم الأشجار، لمحت خطا من الصخور البازرة يمتد جنوبا، وتبينت أنه شبه جزيرة كيب تاون. وكان علينا الاتجاه شمالا لنصل إلى قمة تشابمان، وهو جبل مخروطي الشكل، يتضمن طريقا متعرجا يمتد على مسافة تسعة كيلومترات بمحاذاة الأسوار الساحلية والجروف الصخرية حتى خليج هاوت.
وغادرنا المطعم، وكان احتكاك سيارتنا المستأجرة الصغيرة مسموعا أثناء السير على الطريق غير الممهد بين اصطبلات الخيول المحاطة بأسوار من جذوع الأشجار والمزدحمة بالخيل السمينة.
وبعد بضعة انحناءات خفيفة في آخر الطريق صعدنا إلى الجانب الغربي من جبل قمة تشابمان، وشاهدنا شاطئ نوردهوك الممتد من خلفنا. ولكننا لم ندرك مدى روعة الرحلة التي تنتظرنا إلا بعد أن اجتزنا منعطفا حادا نحو اليمين.
شُقّ طريق قمة تشابمان، أو كما يطلق عليه سكان المنطقة "تشابيز"، وسط الجروف الغربية من الجبل، بين عامي 1915 و1922، بالاستعانة بالعمال الذين يقضون فترة عقوبة.
وقد سُمي الطريق تشابمان نسبة إلى جون تشابمان، ربان السفينة الإنجليزية الذي زار المنطقة عام 1607، ولكن البطل الحقيقي الذي أنشأ طريق قمة تشابمان هو سير نيكولاس فريدريك دي وال، أول حاكم لمقاطعة كيب، الذي لم يتراجع قيد أنملة عن فكرته بشق الطريق وسط الجبل، على الرغم من أن المهندسين أكدوا أنه غير قابل للتنفيذ.
لكن هذه الجروف لم تكن بمنأى عن مخاطر الانزلاقات الصخرية، ولهذا حدد المهندسون في النهاية مكانا للطريق في منتصف الجبل، بحيث توفر طبقة الغرانيت الصلبة أساسا متينا، كما يسهل الحفر على طبقة الحجر الرملي التي تعلوها.
لكن الطريق في السنوات الثمانين الأولى بعد افتتاحه، لم يخل من الصخور التي كانت تتساقط بين الحين والآخر من جروف الحجر الرملي.
واتخذت السلطات المحلية تدابير لتحسين الأمان على الطريق، على رأسها إغلاقه إذا ساءت الأحوال الجوية، أو إذا رأت أن مخاطر تساقط الصخور مرتفعة.
ورغم ذلك، في ديسمبر/ كانون الأول عام 1999، أودت صخرة بحياة سائق سيارة في أحد الأيام التي لم يكن متوقعا أن تتساقط فيها الصخور، وعندما انعقد اجتماع طارئ لمناقشة مصير هذا الطريق، اندلع حريق مستعر في الغابات فوق الطريق، وأطلق وابلا من الشظايا، ما أدى إلى أغلاق الطريق في النهاية أمام جميع المركبات.
وأُغلق الطريق من عام 2000 إلى عام 2003، ثم أعيد إغلاقه في عام 2009، واستعان المهندسون بكل ما يخطر على البال من وسائل تكنولوجية للحد من المخاطر الناجمة عن الجروف فوق الطريق.
واستعانوا بالكمبيوتر لعمل نماذج محاكاة للمنطقة، وبمساعدة عمال طرق من سويسرا، توصلوا إلى مجموعة من الحلول للقضاء على مخاطر الانزلاق الصخري المستمرة.
وبعد أن اجتزنا منعطفا حادا آخر على الطريق الذي يقال إنه يتضمن 114 منعطفا، تملكني الخوف عندما وجدت نفسي أمام واحدة من الحلول الهندسية المدهشة، التي تسمى "أسوار التقاط الصخور"، وهي نوافذ فولاذية يبلغ طول الواحدة منها ستة أمتار، وتميل على الطريق لتشعر أنها تكاد تسقط فوق رأسك.
وقد صممت هذه النوافذ التي يبلغ عرض الواحدة منها 1.6 كيلومتر لتحمي الطريق من الانزلاق الصخري المحدود في مواقع متعددة على طول الطريق الممتد لمسافة تسعة أمتار. لكن طريق تشابمان يزخر بالعجائب.
ولم تكد تزول دهشتنا من ضخامة الجروف، حتى اجتزنا منحنى آخر نحو اليسار لنجد أنفسنا أمام المحيط الأطلسي الجنوبي وخليج هاوت البراق. وتجمعت السحب فوق قمة سنتينل، لتشكل شلالات عجيبة من الأبخرة المتصاعدة التي يسميها السكان "غطاء المنضدة"، عندما تغشى الأبخرة جبل تيبل، (أو جبل المنضدة).
وستلازمك الدهشة والانبهار من المشاهد التي تراها من أعلى الجبل. وعلى الرغم من المخاطر الظاهرة في الطريق، أغراني مشهد الخط الساحلي شديد الانحدار للتوقف عند كل مكان يطل على منظر من المناظر الأخّاذة واحتساء الخمر.
وبعد المنعطف الداخلي وجدنا أمامنا نفقا له جدار واحد فقط، طوله 155 مترا، لكنه من المتانة لدرجة تمكنه مقاومة الجاذبية الأرضية.
فبدلا من بذل محاولات للحيلولة دون وصول الصخور المتساقطة من هذا الجرف شديد الانحدار إلى الطريق، حفر المهندسون نفقا في أحد جوانب الصخور لدرء المخاطر عن الطريق.
وعندما اقتربنا من خليج هاوت، وجدنا أن الطريق يسير على منوال واحد، فعندما تنعطف يسارا يظهر أمامك منظر الساحل الخلاب، وبعدها تنعطف يمينا لتجد أحد الإبداعات الهندسية المبهرة.