إبداع عذب ونهاية تراجيدية.. أديبات عرب رحلن بالانتحار

هل يمكن للكاتبة المبدعة أن تحمل بداخلها بذور الفناء، بعد أن يستبد بها اليأس وتقاطع الحياة برحيل طوعي في أي لحظة، عندما يحاصرها ضغط الحزن وقسوة الوحدة، وهل صحيح أن الكاتب إنسان غير عادي يحمل بداخله الكثير من الجنون، يمكن أن يحوله بعد تجارب حب فاشلة وخذلان وقطيعة من محبيه وتجاهل من محيطه إلى مستشفى المجانين؟ فضيلة بودريش-الجزائر قصص مريرة ونهايات قاسية لأديبات جزائريات وعربيات، انتهى بهن المطاف خارج نطاق الحياة وفي غربة قاتلة، عجلت بحفر قبورهن في رحيل مفجع إما بالانتحار أو الانفجار حزنا والدخول في دوامة الجنون ودائرة اللاوعي قبل الرحيل.. فهل يتحمل الحس المرهف وملكة الإبداع عوامل الاختفاء قبل نضج التجارب أم الاحتكاك بزخم تجارب المطالعة والتأثر لمعاناة الكائنات الحية فعل فعلته وجعلهن يبحثن عن الحياة الفاضلة والسعادة الأبدية في دار أخرى ومكان غير مرئي؟ الفقيدة المحترقة لم تكن الروائية الجزائرية يمينة مشاكرة، التي قال عنها الروائي كاتب ياسين صاحب رائعة "نجمة" إنها كاتبة بوزن البارود، بل تنبأ أن تكون علامة فارقة في جيلها، مجرد مبدعة تكتب باللغة الفرنسية، لأنها كانت الطبيبة الكاتبة، التي انتهت حياتها في مستشفى المجانين الذي كانت تعالج فيه مرضاها باحترافية عالية، في مفارقة عجيبة جعلت منها الفقيدة التي احترقت بنور إبداعها، بعد التهميش والإقصاء اللذين عانت منهما. ورحلت مشاكرة عام 2013 عن عمر يناهز الـ64 سنة في صمت وبعيدا عن الأضواء، بعد معاناة طويلة ومروعة مع المرض، وبعد أن وقعت فريسة للاضطرابات النفسية بإحدى المصحّات النفسية في العاصمة الجزائر التي كانت تعالج فيها مرضاها، وبعد أن طالها التهميش والنسيان انطفأ صوتها وبريق نور إبداعها للأبد، بينما أدرك الأكاديميون الجزائريون متأخرين قيمة صوتها الأدبي من الناحيتين الجمالية والتاريخية. وكتبت مشاكرة روايتين "أريس" و"المغارة المتفجرة" التي جاءت شبيهة بقصيدة نثرية طويلة على شكل رواية كتب مقدمتها كاتب ياسين. انتحار وكانت الكاتبة والروائية والناشطة أروى صالح من أعلام الحركة الطلابية المصرية أوائل سبعينيات القرن الماضي، ونشرت العديد من الكتابات في الصحف والمجلات الأدبية، وانتمت لما يعرف بجيل الحركة الطلابية الذي كتبت عنه كتابها الشهير "المبتسرون.. دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية"، لكنها ختمت حياتها بمأساة الانتحار. وكتبت أروى في رسالة لأحد أصدقائها قبل أكثر من عشر سنوات من رحيلها قائلة "النفور من العواجيز نفور أحيانا بيوصل (يصل) لدرجة شعور جسدي بالاشمئزاز! بحس (أشعر) أنهم سبة في وجه الحياة.. وابتدت (وبدأت) تداعبني فكرة أني لما أوصل (عندما أصل) مرحلة معينة من العجز أنتحر". جسر العشاق من فوق جسر العشاق جاءت نهاية الشاعرة والقاصة صافية كتو أو "زهرة رابحي" اسمها الحقيقي قبل ثلاثة عقود، لأنه لم يكن ممكنا أن يستمد الأمل من الموت، حيث وصلت هذه المبدعة إلى حافة اليأس وفوهة الاندثار، فرحلت بخيارها وألقت بنفسها من جسر الانتحار، الذي تحول فيما بعد إلى جسر للعشاق الذي يوجد بشارع "كريم بلقاسم" أو "تليملي" سابقا بالعاصمة الجزائر. انسحبت صافية بشجاعة ذات صبيحة شتاء بارد في منتصف عقدها الرابع، لتضع حدا لألمها النفسي، وتطوي أحد فصول تهميشها، والظاهر أن صوتها كان محسوبا على المعارضة ولكن الحقيقة دفنت معها. ومن أثرها الإبداعي نذكر المجموعة الشعرية "صديقتي القيثارة"، والمجموعة القصصية "الكوكب البنفسجي"، وكانت تكتب باللغة الفرنسية، منذ أن كانت أستاذة لغة فرنسية ثم صحفية بوكالة الأنباء الجزائرية. عطر الثرى وبطريقة مشابهة أنهت الشاعرة الشابة هادية رجيمي حياتها ولم تتجاوز عقدها الثالث في عام 2010 بطريقة مؤلمة، بعد انتحارها داخل بيتها في ظروف غامضة، تاركة وراءها مجموعتها الشعرية الأولى "عطر الثرى" وحيرة وأسى وحزنا عميقا في الوسط الأدبي الجزائري. الحياة المثالية يمكن وصف مي زيادة بالأديبة المعذبة التي تجرعت ويلات الظلم وحوصرت بالقسوة، بعد أن زج بها في مستشفى الأمراض العقلية من دون وجه حق. وتنحدر مي زيادة من أب لبناني وأم فلسطينية، ودخلت بعد رحيل والديها وحب حياتها جبران خليل جبران في الفترة الممتدة ما بين عام 1929 و1932 في عزلة وابتعدت عن الناس، لكن الحجر عليها ودفعها للإقامة في "مشفى العصفورية" (مستشفى المجانين) لمدة تسعة أشهر، لم يكن لهما تبرير حسب المقربين منها والعديد من الباحثين، سوى طمع وجشع أقاربها من أجل الاستيلاء على أملاكها. صحيح أن مي تحررت من قيد الجنون وأسقط عنها تلك التهم الملفقة، لكن في نهاية المطاف انتكست صحتها مرة أخرى رغم وقوف العديد من أصدقائها إلى جانبها في لبنان ومصر. رحلت مي متأثرة بتلك الخدوش التي عمقت جراحها النفسية، خاصة بعد اكتشافها أن الحياة المثالية التي كانت تحلم بها، لم تكن موجودة سوى على الورق بسبب دسائس العديد من البشر. دراسة شاملة لم يخف الدكتور إبراهيم صحراوي -الناقد والمترجم والأستاذ الجامعي- مطابقة المقولة الشهيرة "أن كل كاتب يحمل بذور جنون في أعماقه"، ووصفها الكاتب بمكامن الثورة على الواقع والتمرد على كل من يناقض الطبيعة والأصل، وأحيانا يحمل بعضهم الآخر يأسا وتشاؤما يدفعهم إلى العزلة، وقد يتطور الأمر إلى خيار الانتحار. واستند صحراوي إلى آراء الفلاسفة الذين يعتقدون أن الإنسان المبدع غير سوي، بمعنى أنه مختلف عن الآخرين. ويقول الناقد الجزائري للجزيرة نت، إن ظروفا متعددة تدفع الكاتب إلى الجنون أو الانتحار، لكن الظاهرة تستدعي القيام بدراسات شاملة تكون نفسية واجتماعية واقتصادية وسياسية، على خلفية أن السلوك والتصرف غير طبيعيين، دون شك أسبابه تكون فوق طاقة البشر، خاصة بالنسبة للكتاب الذين يعيشون في عالم افتراضي يحمل الكثير من الأفكار والمثل، ومناقض للواقع الذي يعبرون عنه في كتاباتهم. الواقع المرير واللاجدوى من جانبه، أكد الدكتور سعيد بوطاجين -الناقد والأكاديمي والمترجم- أن مسألة انتحار وجنون الكتاب والفلاسفة موغلة في التاريخ ولا تقتصر على الجزائر والوطن العربي. ويقول بوطاجين للجزيرة نت إن هناك تفاوتا محسوسا في أسباب الانتحار، من حيث المنطلقات أو من حيث التصور القائم لثنائية الحياة والموت، في ظل وجود من يعتقد على سبيل المثال أن الموت أو الانتحار قضاء على الأشياء الصغيرة التي تربطهم بالحياة، كما يمكن قراءة ذلك في كتاب "الانتحار". وعكف الدكتور بوطاجين على سرد بعض حالات الانتحار التي وقعت في الغرب مثل حالة "يوكيو ميشيما"، لأن في تصور هذا الكاتب أن الكتابة وحدها هي التي تربطه بالحياة، وعند الانتهاء من مشروعه السردي وضع حدا لحياته، على طريقة "الهراكيري" أي يدعو مجموعة من الأصدقاء لحضور قطع رأسه. وبالنسبة للشاعر الروسي "مايا كوسكي" فقد قال إذا لم تحقق الثورة الروسية أهدافها سأنتحر، وبالفعل نفذ قراره، وفي الجزائر والعالم العربي قد تتعلق الأسباب بالتهميش والإقصاء اللذين يعيشهما الكاتب، أو لأسباب نفسية أو اجتماعية أو سياسية. المصدر : الجزيرة
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص